تعز العز

علي عبدالله صالح نهاية رجل مناور -غير شجاع !!

كعادةِ الحُكّام الديكتاتوريين العرب، ممن يعيشون هاجس السلطة الجنوني، ليس من نهاية تليق بهم، وبطبيعتهم المتماهية مع الأنا السلطوية، إلا بالتصفية أَوْ بالقتل سحلاً أَوْ برصاصة “غادرة!”.. فتناقضات الواقع الذي خلقوه وتوترات السلطة التي أدمنوها أوصلت الأمور إلى معادلة عدمية. إما نحن أَوْ لا أحد.. إما نحن أَوْ لا حلول سلمية ولا معالجات سياسية أُخْرَى مع هؤلاء..

في ظل هيمنة هكذا عقليات سلطوية خلاصية، نمتْ وترعرعت الدول العربية الاستبدادية، التي تفجرت عن مآلات محزنة، بانتهاء قادتها ورموزها.. فبالأمس كانت نهاية “معمر القذافي”، واليوم تأتي نهاية “علي عبدالله صالح” رئيس اليمن المخلوع، ومعها انتهت حياة دراماتيكية لسياسي عربي كرّس حياته -وكل ما حوله، وما لديه- فقط لخدمة غرضه الأسمى والأعلى، وهو البقاء الغريزي على رأس السلطة الغاشمة التي لا ترى إلا ذاتها، حيث تمكن عبر عقود طويلة من التلون والتحول والاندراج في مواقع متباينة ومختلفة وبناء تحالفات متناقضة، كان فيها راقصاً وحيداً على رؤوس ثعابين اليمن منذ العام 1978م.

و”علي عبدالله صالح” ليس أول ولا آخر سلسلة الحكام المتهافتين على السلطة ولو على حساب مصالح شعوبهم، وحساب أرواح وموارد وثروات بلدانهم، وصراعات وفتن وحروب قد تشتعل في ثيابهم.. فتأريخُنا نحن العرب  ما فتئ يقدمُ شواهدَ حية على ذلك.. هو تأريخ القتل الطويل والممتد إلى الجذور العتيقة حيثُ قتلَ الأخُ أخاه، والأمُ تآمرتْ ضدَ ولدها، والأب اقتلع عيني وحيده.. وإذا أحصينا عدد من قُتل من العرب بسبب الحكم والكراسي.. فماذا سنجد؟!.. صفحات مهولة للقدر العربي الأحمر، ولا قبل لنا بها من صراعات الدم السلطوي العربي.. صفحات بمساحات واسعة ما زالتْ تُكتب بالدم.. وربما ستبقى كذلك إلى أمدٍ بعيد. نعم هو تأريخ شلالات الدماء التي سالتْ ونزفتْ للحفاظ على مكامن القوة والتحكم بالمصائر والوجودات الآدمية ولو بمعناها البشري البسيط..!!

لقد كان “صالح” رجلَ سياسة (فضلاً عن كونه عسكرياً) بامتياز، منذ أن قفز إلى السلطة بعد مصرع رئيسين، الأول: “إبراهيم الحمدي” (الذي اغتيل في صنعاء في تشرين الأول سنة 1977)، والثاني “أحمد حسين الغشمي”، (الذي اغتيل في حزيران سنة 1978م). وعلى خلفية هذه التصفيات جاء الرجل محمولاً على كراسي الدماء. بما يؤكد أنه ضالع في الجريمة.

ويومها وجد آلُ سعود فيه (في علي عبدالله صالح) –بعد اتصالات مكثفة مع الأميركان- وجدوا فيه ضالتَهم المنشودة وفرصتهم الذهبية للتدخل بملفات اليمن، ومنها تسوية نزاعاتهم الحدودية معه.. خَاصَّة وأن علي صالح (الجامح للحكم والبقاء السلطوي) أثبت أنه مناور وبراغماتي، ويحسن فنون السياسة وألاعيب السياسيين، ومستعد للتضحية بأي شيء للبقاء والاستمرار السياسي. فطلب منه الأميركان (زمن جورج بوش الأب الذي كان مديراً للمخابرات المركزية الأمريكية CIA) مشاركتهم في حرب أفغانستان التي كان قد بُدئ فيها قتالٌ “جهادي” ضد السوفييت (الكفار والمشركين)، وكانتْ استجابةُ صالح لهم قوية، لتكون بلاده محطةً من محطات الجهاد الأفغاني الطويل. كما طلب منه آل سعود في العام 1995م التنازل عن مساحات حدودية واسعة من أراضي اليمن (الغنية بالنفط والثروات الأُخْرَى)، وكانَ لهم ما أرادوه مقابلَ صفقة مالية خَاصَّة به (رشوة)، قُدرت بــــ/10/ مليارات دولار.. قيل أنه سُلمت إليه شخصياً، كما ذكرت مصادر صحافية رصينة في وقتها.

ولكن رغم تحالفه أَوْ علاقاته الجيدة مع الأميركان، ومع حلفائهم (آل سعود)، لم يقطع علي صالح شعرة معاوية مع ألد أعدائهم بالمنطقة، وهو عراق “صدام حسين”، ففتح خطوطاً معه (مع صدام حسين)، وارتبط بعلاقة شبه خَاصَّة مع الحكم البعثي العراقي، وكان ينسق مع “صدام” في كُلّ شيء خَاصَّة سياساته مع الخليجيين، حيث كانت المصالح بينهما قائمة ومتبادلة، فمن جهة كان صدام ينشد محاصرة السعودية عن طريق اليمن، والتأثير بقرارها الخارجي بأسلوب الضغط.. بالمقابل أراد “علي عبدالله صالح” دعم نظامه مالياً واقتصادياً، وتمويل بناء الجيش اليمني، وهذا ما حصل عليه، بل وساهم ضباط عراقيّون في تأهيل هذا الجيش وتدريبه، حتى صارت قوات الحرس الجمهوري اليمني نسخة طبق الأصل من الحرس الجمهوري العراقي.

وأما على الصعيد الدولي، فقد تمكن “علي عبدالله صالح” من مدّ جسور علاقة جيدة متوازنة مع كُلّ من السوفيت والأميركان. فالسوفييت كان يهمّهم وجود نظام إلى جانب عدن (اليمن الجنوبي) يحتفظ بعلاقات طيبة معها، والشيء ذاته بالنسبة للأميركيين، حيث كانوا يريدون من يمن علي صالح، الحفاظ على هدوء وتوازن بجانب آبار النفط ومنابع الطاقة، وأنه يكون عندهم هناك، وكيل يلبّيهم متى يحتاجون إليه، ولا يثير لهم مشاكل، وهذا ما حكم سياق العلاقات في العقد الأخير، التي قامت على أساس محاربة تنظيم “القاعدة” في المقام الأول.

لكن بقاء الحال من المحال كما يقال، فقد أصبح اليمن بعد حرب أفغانستان مقراً وممراً للجهاد القاعدي الأصولي، وباتت الدولة اليمنية “الرسمية” متهمة –في نظر أمريكا والغرب- بأنها من رعاة تنظيمات القاعدة، وأن علي صالح هو من تعايش مع تلك التنظيمات، واستخدمها في حروبه الداخلية وأجنداته المحلية والخارجية.

وهذا الأمر جعل “يمن علي عبدالله صالح” موضوعاً في مرمى الاستهداف والعين الأميريكية والسعودية، حتى انطلقتْ موجات التغيير العربي أَوْ ما سُمي بــ “ثورات الربيع العربي!”، التي طالت بلده حيث اندلعت التظاهرات في اليمن الفقير والمستضعف والمتخلف، فقرأها علي عبدالله صالح بعين البقاء بعد الانحناء للعواصف علّها تمر، وقد رأى بأم عينيه ما حصل لحسني مبارك وعلي زين العابدين ومعمر القذافي.. ولكنها لم تمر عليه بسلام، ولا على شعبه الذي أتخم بالمبادرات الأُمَـمية والخليجية والأمريكية بحثاً عن حلول وسطية، فلم يقبل رغم محاولات قتله وتهديده بإخراجه نهائياً ولو بالقتل من مشهد اليمن السياسي.. لكنه، في كُلّ مرة كان يبدل جلده، فانقلب على حلفاء الأمس، وبنى تحالفات جديدة مع أعدائه القدامى (من جماعة أنصار الله الحوثيين).. في ظل مراوغته وإصراره على البقاء هو أَوْ أفراد عائلته في المشهد السياسي المستقبلي..

لقد دعّم صالح حكمه بقوة التحالفات القبلية، وعززه بالاعتمَاد على العنصر الأسري والعائلي، حتى أنه سلم أقاربه وأبناء قبيلته (من أفراد عائلته وأبناء عمومته) كثيراً من مفاصل الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية.. بل وأعطى لنجله الأَكْبَر “أحمد” صلاحيات كبيرة على صعيد متابعة أمور الجيش ومختلف شؤونه، وألّف له قوّة خَاصَّة بتسليح وتدريب أميركيين، مهمتها مكافحة الإرهاب ومطاردة تنظيم “القاعدة”. لكن طموح الابن ورغبة الأب كانت تذهب في اتجاه توريث الشاب، الذي لم يُبد أي مواهب تؤهله لخلافة والده صاحب نظرية “حكم اليمن كالرقص على الثعابين”.

..يمكن القول أخيراً أن “علي عبدالله صالح” -سواءٌ وافقته أم خالفته- يبقى رجلَ سياسي من نوع خاص.. يرتدي قماشة سياسية على مقاسه لوحده، ربما لا تليق إلا به.. فقد تحوّل فعلياً إلى مدرسة سياسية قلّ نظيرها في المكر والدهاء و”الخبثنة”.. فتجربته لا تقوم على أساس البقاء للأقوى فقط.. بل على أساس البقاء للأَكْثَر مكراً واحتيالاً واستدارة، ونقلاً للبندقية من كتفٍ إلى آخر.. وها هو منذ أيام، قبل مقتله، ناور وأعاد تدوير دفة سفينته من جديد إلى آل سعود، وضرب حلفاء الأمس.. ولكنه لم يلحق، فقد عاجلته رصاصات الحلفاء الذين غدر بهم.. تغدوا به قبل أن يتعشى بهم..!!..

..إنّ سلوكية الحكام في معاندة التأريخ وقوانينه ونواميسه وعدم مواكبتها خَاصَّة في لحظاتها التغييرية لا تفيد، ولا يمكن أن يكون –علي عبدالله صالح أَوْ غيره من رموز التسلط العربي- مؤهّلين للاستجابة لها أَوْ وعيها.. وفي هذه الحالة، حتماً ستتفجر الصراعات وتشتعل الفتن وتتحطم الدول والمجتمعات.. و”تسوناميات” التغيير ستأخذ (وتأكل) في طريقها الأخضر واليابس.

 

✍ نبيل علي صالح

باحث وكاتب سوري