تعز العز

فائض إنسانية أم فائض رأسمال؟

فجأة ودون سابق إنذار استفاقت أوروبا الرسمية على فائض من الإنسانية (أ ف ب)

“يجب ألا تكون هناك قيود أو حدود على أرقام اللاجئين”؛ هذا ما قالته بالضبط المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، وهي تبدي رغبتها في استقبال مليون لاجئ سوري في تصريح شديد الجرأة
أياد المقداد

لم تكن المستشارة لتتمتع بهذه الجرأة لو لم تكن الصناعة الألمانية ومن خلفها البنوك ومجاميع رأس المال الأقوى في أوروبا تقف خلف، المرأة الحنون. فالسوق الالمانية بحاجة تماما لتوظيف مئات آلاف الأيدي العاملة غير المختصة والرخيصة نسبيا وهو ما أورده صراحة إينغو كرامر، الصناعي الألماني الرقم واحد، ليتبعه رئيس غرفة التجارة والصناعة الألمانية، أريك شفتازير، بتصريح يعبّر فيه عن شراهة رأس مال متوّثب. رأى أنّه لا يجوز الإنتظار أشهرا لضخّ الوافدين الجدد في سوق العمل بل ينبغي الإستعجال في هذا الأمر.

المفارقة الغريبة هنا أنّ ألمانيا المتحمسة لإستيعاب مئات آلاف السوريين هي نفسها التي غصّت بنحو 75 ألف طالب لجوء صربي وألباني، وهي تنوي طردهم باعتبارهم لاجئين إقتصاديين يكلّفون الخزينة ولا يقومون بأي من الأعمال المفيدة للإقتصاد الألماني.
ولأنّ القاعدة هي أن يدور الضعيف في فلك القويّ، لم يجد رئيس الوزراء الهنغاري، فيكتور اوربان، الذي كان كلّ همه تجنيد الشرطة والجيش والكلاب البوليسية لمطاردة اللاجئين ومنعهم من عبور الحدود إلى النمسا المجاورة، إلاّ أن يخضع لمنطق الجارة العظيمة فينقل من كان يطاردهم، بالباصات الحكومية، إلى خط الحدود لتتكفل بعدها القطارات بنقلهم إلى ميونيخ ومدن ألمانية أخرى، حيث كانت مئات العائلات الألمانية بانتظارهم وسط تصفيق وفرح بنجاتهم. وذلك بعدما تجندّت الصحافة الألمانية لخلق جو عام شديد الحماسة لخطوات السيدة ميركل.
وكما هو دائما رأس المال يوجّه الإعلام، فإنّه من الطبيعي أن تجتاح أوروبا موجة تعاطف إنساني “نادرة” في ما يتعلق بضحايا المذابح في سوريا، وهي موجة لم تعرفها تجاه طالبي اللجوء زمن الحرب اليوغسلافية.
يعلن مثلاً رئيس وزراء فنلندا، يوها سيبيلا، رغبته في منح بيت عائلته في وسط فنلندا لعائلات سورية نازحة طالما أنّ هذا البيت لا يفيده في شيء منذ انتقاله للعيش في هلسكني العاصمة. ويتطوّع بابا روما لمنح اللجوء الرمزي لعائلتين سوريتين داعياً كلّ رعية إلى أن تحذو حذو الفاتيكان في استضافة عائلة نازحة. حتى إن إيطاليا المتخمة بالفساد البيروقراطي والأوضاع المعيشية الصعبة وجدت نفسها مرغمة (برغم عدم استعدادها العملاني) على إبداء مرونة شديدة في ما يتعلق بترتيب أوضاع اللاجئين الذين يتوافدون وبأعداد كبيرة إلى شواطئها الجنوبية بطرق بدائية ولئيمة، ودائما تحت إشراف عصابات التهريب الشرق أوسطية بالتنسيق مع مافيا جزيرة صقلية، وهو ما نبهت منه منظمة العفوّ الدولي وأشارت إليه إشارات واضحة كان من نتائجها إحراج الحكومة الإيطالية.
فجأة ودون سابق إنذار استفاقت أوروبا الرسمية على فائض من الإنسانية لم يتسن لنا أن نعرفه فيها سابقا، فخرجت وسائل الإعلام الأوروبية لتخبر جمهورها أنّ سوريا هي في أصل الحضارة الغربية، بل هي من أساسات وجودها، ولتعيد التذكير بالقديس بولس وبدايات المسيحية في سوريا بالذات، وبالإسكندر المقدوني الكبير “صانع” تدمر، وبالأثر البيزنطي العظيم المهدّد بالإنقراض على سواحل المتوسط، حتى ليبدو معها أن السوريّ ليس إلاّ السلف الصالح للقارة العظيمة التي تتربع على صدارة الرقيّ المدنيّ في عالم من مليارات لا يستهلك ربع ما تستهلكه القارة العجوز من موارد الأرض.
لكنّ الحقيقة المرّة الغائبة عن جمهور منتش بحنان مفرط هي أنّ ما نشهده ليس قطعا فائض إنسانية بقدر ما هو فائض رأسمال بحاجة لأن يتسارع نموه، وفي عملية تسارعه لا بدّ من أجساد سمراء في عطش للخبز والأمان. لقد وجدت الصناعة الغربية ضالتها ووجدنا نحن حضنا يؤوينا، طالما كنّا وما زلنا أيتام الصحراء.

كيف تتعامل صحافة الغرب؟

لا تزال أزمة اللاجئين السوريين إلى أوروبا تشغل الصحافة الغربية على نطاق واسع وترواح تعليقات الصحف ما بين متعاطف مع موجات اللجوء باعتبارها مشكلة إنسانية وملتزم بالحذر ــ دون أن يخلو الأمر من بعض النزعات العنصرية.
صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية أبرزت تصريحا للرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولا ساركوزي، دعا فيه إلى تعليق اتفاقية “شينغن” التي تسمح بحرية تنقل الأفراد بين الدول الغربية، معللاً ذلك بالقول إنّ “اتفاقية شينغن لم تعد مجدية، وهذا أمر لا يستطيع أحد نكرانه. علينا التحلي بالوضوح وتحمل نتائج منع غير الاوروبيين من التنقل الحر مؤقتا في منطقة شينغن”. وأضاف أنه “يجب ان تفرق بين اللاجئين السياسيين الذين يمنحون اقامات تمتد لعشر سنوات، ولاجئي الحروب الذين ينبغي ان يمنحوا اقامات مؤقتة، واللاجئين الاقتصاديين الذين ينبغي ان ترفض طلباتهم”.
“التايمز” البريطانية نشرت مقالا تحت عنوان “قبول هؤلاء المهاجرين خطأ فادح”. وقالت كاتبة المقال، ميلاني فيليبس، إنه يجب ألا يُنتظر من بريطانيا السماح بتدفق نازحين، قد يحدث تغييرا في التوازن الثقافي في بريطانيا للأبد.

ما نشهده ليس فائض إنسانية بقدر ما هو فائض رأسمال بحاجة لأن يتسارع

وحذرت الكاتبة من أن قبول بريطانيا لمهاجرين وصلوا بالفعل إلى أوروبا سيمثل حافزا لتهريب البشر، وقد يفضي إلى غرق المزيد ممن يحاولون الهجرة عبر البحر المتوسط. ورأت فيليبس أن الأمر ينطوي أيضا على تهديد للأمن القومي، لأن عددا غير معروف من هؤلاء المهاجرين قد يكونون من مؤيدي “تنظيم الدولة الإسلامية”. وتتساءل الكاتبة: “لماذا تكون هذه مسؤوليتنا؟ دول الخليج لم تتطوع بقبول لاجئ واحد. ألا تقع مسؤولية هذه الهجرة بالأساس على العالم العربي والإسلامي؟”.
وتساءل الصحافي، روبرت فيسك، في “الإندبندنت” البريطانية، عن السبب في حرص المهاجرين على “التوجه إلينا، نحن الكفار، طلبا للمساعدة” بدلا من الذهاب إلى دول الخليج الثرية مثل السعودية. وقال فيسك إن من بين ملايين اللاجئين السوريين فضل مئات الآلاف عدم التوجه إلى لبنان وتركيا والأردن، بل الابتعاد أكثر في قوارب لمناطق أخرى غير الأرض التي عاش فيها نبي الإسلام ونزل عليه فيها القرآن. وأضاف: “اللاجئون لا يقتحمون شواطئ مدينة جدة على البحر الأحمر، مطالبين باللجوء والحرية في البلد الذي دعم طالبان وخرج منه أسامة بن لادن”.
وقال إنه لا يعتقد أن الدافع وراء ذلك هو أن المهاجرين لديهم معرفة كافية بأوروبا وتاريخها، معرباً عن رأيه بأنهم يعرفون أنه على الرغم من “ماديتنا وضعف تديننا” لا تزال فكرة “الإنسانية حية في أوروبا”.
“الغارديان”، في مقال افتتاحي، رأت أن بريطانيا لا يمكنها فتح حدودها لكل من يهرب من حرب في أي مكان في العالم، لكن ذلك “لا يعد مبررا لإصرار الحكومة المخجل على إغلاق حدودنا أمام أكبر عدد ممكن من اللاجئين”. وقالت إنّ “التزاماتنا الدولية وضميرنا الجمعي يحتمان علينا توفير ملاذ عندما تتجلى كارثة إنسانية أمام أعيننا”.
وفي مؤشر ذي دلالة، نشرت مجلة “بيلد” الألمانية صورة الشاب الألماني الذي قال في منشور على موقع “فايسبوك” إنه ليس حزيناً علي غرق الطفل أيلان بل يحتفل بهذا الخبر، وإنه كان يتمنى أن يلقي كل اللاجئين المصير نفسه. الشاب الألماني يدعى بنيامين ش. ويبلغ من العمر 26 عاماً وقد ألقت الشرطة الألمانية القبض عليه بعد 36 ساعة من نشره لـ “البوست” العنصري، وجرى توجيه تهمة إهانة كرامة شخص ميت. الجدير بالذكر أن المجلة تنوي إجراء مقابلة مع والدة الشاب للتعرف أكثر على دوافعه.
وهكذا يبدو الرأي العام الغربي في حالة من الإضطراب في مواجهة أزمة اللجوء السوري، فضلاً عن العديد من التساؤلات عن غياب الدول والحكومات الإسلامية عن التعاطي الإيجابي مع هذه الأزمة، لكن لا يبدو أن هناك من يطرح بجدية السؤال الكبير عن مسؤولية الغرب، الحالية والتاريخية، عن أكبر مآسي القرن الواحد والعشرين وعن جدوى استمرار رعايته للأنظمة التي هي في أساس هذه المشكلة.