تعز العز

وحدهم الأبطال والقادة يختارون نهاياتهم كما يريدون

عبد الرحمن جاسم

“وحدهم الأبطال والقادة يختارون نهاياتهم كما يريدون”.
جيرونومو (أحد أبطال سكان أميركا الأصليين)

تعتبر القضية الفلسطينية واحدةً من أهم القضايا في عصرنا الحديث، ذلك أنّها -بطبيعة الحال- الدولة الوحيدة التي لا تزال ترزح تحت نير احتلالٍ من أي نوع. تأتي غالبية القضايا الأخرى والتي “حلّت” بشكلٍ أو بآخر نوعاً من القضايا الجانبية إذا ما قورنت بالقضية الفلسطينية، والسبب يعود بالطبع إلى تركيبها المعقّد والبنيوي: شعبٌ تم تجميعه من أنحاء الأرض قاطبة، كي يتم إسكانه في أرضٍ لا يمتلك أي حقٍ فيها سوى ما ترويه بعض أساطير أحبارٍ أكل الزمان وشرب على كلامهم. لايعترف الغرب –أبداً- بغالبية الأساطير التي يرويها أحبار اليهود إلا بمقدار ما تخدم ما يريده ويستعمله لتحقيق مآربه. يشرح كتاب “دولة فلسطينية للهنود الحمر” -وهو كتابٌ بالغ الأهمية- لمؤلفه الباحث منير العكش كيف أنَّ الولايات المتحدة الأميركية –كدولة- قامت أساساً على مفهومين لا ثالث لهما: الكذب (الأساطير/التركيب/التأليف والتوليف) والعنف الشديد (بجميع أشكاله وأنواعه وحتى أقصاه تماماً)؛ وهذا نفسه تماماً ما صنع على أساسه كيان الإحتلال العبري.

انزع أخلاقك وتعال:
في المحصلة الأساس: من يعرف كيف قامت الولايات المتحدة وكيف بنيت يمكنه بالتالي فهم واستيعاب لماذا وصلنا إلى هذه المرحلة من الدمار و”التوحّش” في عالمنا الحالي. يطرح الكتاب معضلةً أخلاقيةً منذ بداياته: ما هو الأهم الأرض أم الأخلاق؟ الصواب أم المكاسب؟ المكانة/الجاه أم الإنسان(الإنسانية) ؟ الإجابة “المنطقية” تتمثل في الاسئلة  التالية : ألم يكن–مثلاً- الجنرال جورج كلارك قاتل هنود الشاوني (المعروف ببطشه الشديد ووحشيته) يشبه إلى حدٍ كبير المجرم آرييل شارون وزير الحرب الصهيوني(ورئيس وزرائه فيما بعد)؟ بماذا يختلف الرئيس الأميركي الأول (المؤسس للدولة) جورج واشنطن عن بن جوريون وغولدا مائير، أول رؤساء لوزراء العدو ومؤسسي الدولة العبرية كما هي معروفة؟ ما هو الفارق بين روبرت جونسون الواعظ الشهير صاحب المقولة الشهيرة: “اقتلوا السكان الأصليين لكنعان فهم “جهّال” لا يعرفون الفرق بين الموت والحياة”، وبين عوفاديا يوسف الحاخام الصهيوني صاحب المنطق المعروف: “يجب قتل كل العرب كي لا يبقى لهم أي أثرٍ في عالمنا المعاش”. قد يستغرب البعض في كلمة جونسون تسميته للأرض الأميركية بـ”أرض كنعان”، لكن لن يطول استغرابه كثيراً حينما يعرف بأن صهاينة ذلك الزمان استخدموا تعبير “كنعان” لوصف الأرض التي اعتبروها أرضهم، محاولين جعل واشنطن نبي الله موسى(ع)، والأرض التي أتى إليها أرض “كنعان”، وحكما الشعب الآتي من خلف البحار الشعب العبراني الذي أتى معه. لا أخلاق أمام الأرض: تربح الأرض المعركة. لا صواب أمام المكاسب، بالتأكيد تفوز المكاسب في أي معركةٍ لها مع الصواب، وأخيراً ينتصر الجاه (أو عته البشرية بالسلطة) على أي إنسانية مهما كان نوعها.

أسطرة القصة:
إذاً القصة ليست بجديدة: شعبٌ مكونٌ من مجرمي حضارةٍ بعيدة يأتي إلى بلادٍ لا تعرفه البتة، لا حق له فيها كي يحتلها، وأكثر من ذلك كي يقتل أهلها ويستعبدهم. ماذا ينقص هذه الصورة كي تصبح مكتملة؟ إنها تحتاج نفس ما احتاجه الصهاينة لتمرير احتلالهم لفلسطين: البروباغندا، الأسطورة، وبالتأكيد الكلام المقدّس. يشرح مرثيا إلياد وهو مؤلفٌ وباحث روماني في الأساطير وصناعتها، كيف أنَّ الأساطير قامت أساساً لحكي “شيءٍ” ما، يراد من خلاله إيصال رسالة ما، للحث أو للدفع، أو حتى لإثبات أمرٍ لا منطق خلفه. لو تجاوزنا قليلاً شرح إلياد للفكرة، فإننا سنجد أن الصهاينة عبر أحبارهم قدموا الخدمة الجليلة الأكبر لهؤلاء القتلة (القدماء والحديثين على حد سواء). لم يحتج الأمر لإيجاد متحمسين للفكرة من جميع طبقات المجتمع، فتكونت شركة “فيرجينيا” (لاحظوا حتى التسمية تكتسب طابعاً دينياً للجذب)، هنا لا يتوقف الجذب على الموضوع الديني فحسب، بل يتعداه إلى الغرائزي والتوحشي البحت.

قامت شركة “فيرجينيا” نفسها والتي ستؤسس فيما بعد للولاية الأميركية المعروفة بذات الإسم بجذب جميع “القتلة” الأوروبين الأثرياء، من خلال تنظيم رحلات “صيدٍ” بشرية (حيث كان يتم فعلياً اعطاء هؤلاء الأثرياء سلاحاً وأحصنةً ويتم ملاحقة واصطياد بعض السكان الأصليين من جميع الأعمار والأجناس). الأمر عينه تقوم به السلطات الصهيونية اليوم، ولكن تحت مسمى آخر يدعى “التدريب العسكري”، حيث تقوم السلطات العبرية بتدريب قوى مكافحة شغب من جميع أنحاء العالم على “الفلسطينين” (هذا الأمر الذي ورد في السابق في كتاب “عن طريق الخداع” لكاتبه فيكتور أوستروفسكي ضابط الموساد المعروف). أكثر من هذا، تم اللعب على موضوع الغرائز لناحية أخرى غير القتل، حيث يقول أحد الإعلانات التي كانت توزّع في لندن (إبان بدايات الاحتلال الممهنج للقارة الأميركية) مثلاً: “تعال إلى كنعان حيث يمكنك الحصول على ما لذ وطاب من الأجساد الطرية لفتيات في العاشرة” كانت الوقاحة تبلغ أشدها، ولم يكن هذا الفعل يعتبر –نهائياً- مخالفاً للقانون، إذ أن هؤلاء “الأطفال والأجساد الطرية والفتيات في سن العاشرة” لم يكنَّ بشراً كي يدافع أحدٌ عنهم كما أشار الفيلسوف الشهير جون لوك –مثلاً-.

كتاب دولة فلسطينية للهمود الحمر

القاتل نفسه …المحتل نفسه

التشابه/التقارب:
ليس في الأمر خلافٌ أن التشابه والتقارب بين القضيتين الفلسطينية وتلك التي حدثت للسكان الأصليين لأميركا (والذين ينعتون خطأً بالهنود الحمر، فهم ليسوا هنوداً، وحمرتهم هي توصيف أعطي لهم لتفريقهم عن العرق الأبيض “السيد” بحسب المستعمرين). أخذت فلسطين عنوةً من أهلها الذين كانوا يسكنوها ويعمرون فيها مدائناً وبيوتاً. دمرت تلك البيوت فوق رؤوس أصحابها، قتل الأغلب، أما من بقي حياً فإما هجّر  وإما تم إسكانه في أماكن أشبه بسجون صنعت خصيصاً لهؤلاء أنفسهم. في أميركا، سميت هذه السجون بالمحميات، في فلسطين سميت بالمخيمات. لا تنتهي الحكاية ههنا : اقترح الصهاينة في لحظةٍ ما خطةً لتقسيم فلسطين، لكن الفلسطينين رفضوها بشكلٍ قاطع. لم يفعل سكان أميركا الأصليين ذلك، بل إنّهم وافقوا على خطط المحتلين الأميركيين لأرضهم أكثر من سبعين مرةً للتقسيم، ولكن النتيجة كانت عينها، كلما كانوا يزرعون الأرض كانت جيوش “الوحوش” تأتي لتحتلّها. قتل المحتل الأميركي أكثر من 80 مليوناً من السكان الأصليين لتلك الأرض، تلك المجزرة التي لا يحكي عنها أحدٌ هذه الأيام باتت جزءاً من ثقافة تضمحل يوماً بعد يوم. قتل الصهاينة –بدورهم- آلافاً من العرب الفلسطينين واللبنانيين والسوريين دون أن يتحدث الإعلام “الحديث” عنهم شيئاً، كما لو أنّهم لم يكونوا أبداً. ارتكبت المجازر ضد السكان الأصليين في أميركا/فلسطين يومياً ولا تزال ترتكب ويبقى الإعلام هو ذاته، وعلى حاله دوماً: لامبالٍ كأنما تلك ليست قضيته، فهو أساساً صنع من مال هؤلاء القتلة، فكيف يمكنه تعريتهم؟
في الختام؛ هي قصة القاتل نفسها، المحتل نفسه، الذي وضع نفسه فوق البشرية، صنع لنفسه قوانينه الخاصة وضوابطه. أكثر من هذا، رسم القاتل كيفية رؤية الآخرين له عبر إعلامٍ جعله بمصاف الآلهة في لحظةٍ ما (يمكن مراقبة صورة واشنطن مثلاً في وسائل الإعلام العربية والغربية وحتى صورة أميركا نفسها كرمز للعدالة والحرية والديمقراطية). هكذا صورة وهكذا “كذبة” لا يمكن إلا الوقوف أمامها بمعولٍ للهدم، معولٍ لايهدف لكسرها فحسب، بل لمحوها من الوجود: وإلى الأبد. إن المقاومة فعلُ جمع عقلي مستمر.