تعز العز

الإرهاب بين المعنى والمصطلح

ربما لم يعد هناك مصطلح تباينت المواقف حول فحواه ومصاديقه كـ«ألإرهاب».هذه الظاهرة الجديدة ـ القديمة التي كانت، وما تزال، سببا لادخال الرعب في نفوس البشر، أصبحت مصدر اضطراب أخلاقي بالاضافة لتأثيراتها السلبية على المواقف السياسية والتنظيرات الفكرية والايديولوجية. وقد اصبحت تستخدم سلاحا على مستويين: عملي وفكري.

عمليا تحولت إلى ما يمكن تسميته «سلاحا قذرا»، ويمكن اعتباره من بين «أسلحة الدمار الشامل» التي لا تميز بين الضحايا. وفكريا أصبحت أداة تستخدم لتحدي عقول الجماهير، وتوجه وفق إرادة السياسيين ومواقفهم. ويكفي ان يستخدم الحاكم هذا اللفظ ليبرر ممارساته القمعية التي يصل بعضها إلى ما يمكن اعتباره «جريمة ضد الانسانية». بل يسعى البعض للتشويش على تعذيب السجناء بادعاء انهم «إرهابيون». وتسعى قوى الثورة المضادة لتجريم مقاومة الاحتلال ووصمه بالإرهاب.

وقد أظهر خطر التباين بشأن المصطلح ومصاديقه مستويات غير مسبوقة، كادت تؤدي لمواجهة عسكرية بين أكبر قطبين عسكريين في العالم: أميركا وروسيا، عندما اختلفا علنا ازاء الوضع السوري. ففيما احتجت واشنطن على استهداف موسكو بسبب استهدافها بالقصف الجوي جميع المجموعات المسلحة، كررت روسيا إصرارها على عدم التمييز بين مجموعتي «النصرة» و«داعش» من جهة، والمجموعات الأخرى مثل «أحرار الشام» و«جيش الإسلام».

وقال وزير الخارجية الروسي عبارته المشهورة: إذا تصرف (شخص ما) كإرهابي، وتكلم كإرهابي، وبدا كإرهابي، فإنه إرهابي، أليس هذا صحيحا؟ التباين هنا بين الموقفين، ان الروسي يعتبر حمل السلاح وتنفيذ التفجيرات من قبل المجموعات المسلحة «عملا إرهابيا»، بينما ينطلق الأمريكي من موقف مؤسس على انتماء الاطراف وايديولوجياتهم. فان كانوا ممن تعتبرهم «المعارضة المعتدلة» فليسوا إرهابيين. فالممارسات هنا ليست هي المقياس، في المنظور الأميركي، بل الانتماء السياسي والفكري لمن يقوم بذلك. وتتهم واشنطن الانظمة المعادية لسياساتها بالإرهاب ولكنها لا تفعل ذلك مع الانظمة الحليفة.

وبعيدا عن الاتفاق او الاختلاف مع أي من الطرفين، فإن الاخطر من هذا التباين الأميركي ـ الروسي، توسيع دائرة استخدام مصطلح «الإرهاب» لتوصيف من يعارض النظام السياسي القائم، وان لم يستخدم السلاح. وقد توسعت دائرة ذلك الاستخدام من قبل أنظمة الحكم التي تمارس الاستبداد والديكتاتورية وتصر على اعتبار العمل السياسي المعارض «إرهابا». المشكلة ان الاختلاف لم يعد مقتصرا على المواقف السياسية والإعلامية، بل أصبح نهجا في التعامل مع المعارضين، يزداد توسعا مع استمرار غياب السجال الحقيقي على المستوى الدولي لتحديد المصطلحات بما يتناسب مع قيم الحرية والعدالة.

ومن أسوأ مصاديق هذا التداعي الاخلاقي المرتبط بالتراخي ازاءه، وجود جهاز «الشرطة العربية» او «الانتربول العربي» بموازاة جهاز الشرطة الدولية المعني بالتصدي للجريمة ومطاردة مرتكبيها وتقديمهم للعدالة. والجريمة هنا تشمل القتل والسرقة والاختلاس وخطف البشر، ولا تشمل المعارضة السياسية للأنظمة القمعية. أما قوائم المطلوبين لدى «الانتربول العربي» فتشمل المعارضين السياسيين من أغلب البلدان العربية، بينما يرفض جهاز «الانتربول» الدولي مطاردة اي شخص لم يرتكب جرما وفق القانون الدولي.

فالمعارضة والتعبير عن الرأي والتجمع والانتماء والموقف السياسي، كل ذلك من حقوق البشر التي ينص عليها الإعلان العالمي لحقوق الانسان. ولذلك أصبحت اجتماعات وزراء الداخلية العرب هي المصداق الاقوى لمقولات «الوحدة العربية» او «التضامن العربي»، وهي الاكثر انتظاما وفاعلية.

وبدلا من استفادة الانظمة العربية من تجربة «الربيع العربي»، بتوسيع الحريات والانفتاح والاصلاح، توجهت نحو المزيد من القمع. وبدلا من ثقافة «بناء الجسور» بين الحكام والمحكومين، استبدلت بمشاريع «بناء الجدران العازلة». ومن المؤكد ان اوضاع حقوق الانسان في الدول العربية اليوم اصبحت اكثر تداعيا وانحطاطا عما كانت عليه في العقود السابقة. وتحفل الدورة الحالية لمجلس حقوق الانسان، التي افتتحت الاسبوع الماضي بالعاصمة السويسرية، بنشاط محموم من قبل ضحايا القمع السلطوي العربي، والتقارير التي تقشعر الابدان منها نظرا لفظاعة معاملة المعارضين.

ولا يتوقف القلق والشعور بالاحباط عند هذا الحد. فقد سعى بعض الانظمة العربية لتوسيع مفهوم الإرهاب ليشمل قطاعات من ابناء الامة تعارض الإرهاب ولكنها ناشطة في مجالاتها. ومن هذه القطاعات: اولا، المطالبين بالتحول الديمقراطي وانهاء الاستبداد واقامة انظمة سياسية تختارها شعوبها وتحكم بدساتير تشارك تلك الشعوب في كتابتها واقرارها. ثانيا، قوى المقاومة الوطنية والإسلامية التي ترفض الاحتلال والهيمنة الاجنبية على بلدان العالم الإسلامي، خصوصا تلك التي تسعى لتحرير فلسطين وترفض التطبيع مع كيان الاحتلال. ثالثا، مجموعات «الإسلام السياسي» التي تطرح المشروع الإسلامي نظاما بديلا لما هو قائم من أنظمة تابعة للغرب.

الطبقة الاولى التي توصم بالإرهاب تشمل زعماء حركات المعارضة التي طالما زجت في السجون واقصيت عن بلدانها وسحبت جنسية بعضهم. يوصم هؤلاء بالإرهاب لأنهم يرفضون وصاية الحكام على الشعوب ويطالبون بالسماح لتلك الشعوب بتقرير مصيرها وكتابة دساتيرها وانتخاب حكوماتها. فقد اتهم اشخاص كقادة الاخوان المسلمين وعناصر المعارضة السعودية ورموز المعارضة البحرانية بالإرهاب، ليس لأنهم حملوا السلاح او قتلوا الابرياء، بل ربما لأن كلماتهم ومواقفهم مؤثرة في شعوبهم وتساهم في إضعاف هيبة أنظمة بلدانهم. فحين يسجن شخص، مثل الاستاذ مهدي عاكف الذي يبلغ من العمر 88 عاما، وتصدر محكمة الجنايات العام الماضي حكما باعتبار جماعته «منظمة إرهابية»، وهي التي قتل المئات من اعضائها على ايدي الحكم العسكري، فان ذلك يفرغ المفهوم من محتواه. وفي ذلك استهتار بالقضاء والعقل البشري والحقيقة. وعندما يتهم قادة الثورة البحرينية، الذين قادوا أطول ثورة سلمية من بين ثورات «الربيع العربي»، بالإرهاب، وهم الذين اعتقلوا بعد شهر فحسب من انطلاق الحراك في 2011، فإن ذلك تشويش للمفاهيم واستسخاف بعقول العلماء والواعين من أبناء الأمة. الاسبوع الماضي أصدر مجلس التعاون قرارا ينص على اعتبار «حزب الله» اللبناني «منظمة إرهابية».

جاء ذلك بعد قرار التوقف عن تنفيذ الوعد السعودي بتقديم ثلاثة مليارات دولار منحة للبنان. وقبلها كانت محكمة مصرية قد أصدرت حكما باعتبار «الإخوان المسلمين» مجموعة إرهابية. اما المنظمات الفلسطينية فأغلبها مصنف ضمن دائرة «الإرهاب». وكانت الولايات المتحدة قد رفضت رفع منظمة «المؤتمر الوطني الافريقي» من قائمة الإرهاب، ولم تفعل ذلك إلا في 2008، اي بعد 17 عاما على إطلاق سراح زعيمها المناضل التاريخي، نيلسون مانديلا، من السجن الذي بقي فيه 27 عاما. وفجأة تحول، في نظر الأمريكيين والبريطانيين، إلى رجل دولة محترم متناسين انهم كانوا يعتبرونه «إرهابيا» لأنه كان يناضل ضد نظام صديق لهم. ياسر عرفات، هو أيضا كان يعتبر إرهابيا في نظر الاسرائيليين، لأنه كان يناضل من أجل تحرير وطنه من الاحتلال.

ويفترض ان يكون النضال من أجل حرية الشعوب وتحرير الاوطان وكسر شوكة الظلم والاستبداد، عنوانا مشرفا لمن يمارسه. ولكن في زمن انقلبت فيه المعايير، اصبح المحتلون والظالمون وناهبو ثروات الامم، هم الذين يصنفون البشر ويقررون مصائر الشعوب.

وفي عالم تراجع فيه دور الأمم المتحدة، التي يفترض ان تكون المرجع للقيم الاخلاقية التي تنظم علاقات الدول وأوضاع الشعوب وحقوقها، تسعى الانظمة الاستبدادية لتجريم معارضيها بأبشع الوسائل. فتقوم باعتقالهم ثم تمارس التعذيب بحقهم، ثم تستنطقهم وتسحب اعترافاتهم تحت التعذيب، ثم تقوم بنشر بعض اقوالهم بشكل انتقائي مشوه، لهدف واحد: تبرير قمعها المعارضين وتشويه صورة دعاة الحرية من مواطنيها. ثم يأتي دور الاستنجاد بأعداء الامة لاستخدام تجاربهم في القمع والاضطهاد والاحتلال لكسر شوكة المعارضين، فلعلها بذلك تنهي المعارضة.

مشكلة هذه الانظمة أنها لا تتعلم من التاريخ ومن تجارب الانظمة الاخرى المثيلة. كما انها تتحرك ضد التيار وتسعى لفرض انماط حكمها بالقوة تارة والدولار النفطي ثانية، والتحالف مع العدو الاسرائيلي، واستهداف المقاومة ضده، ثالثة، وتدمير اسعار النفط إرضاء للدول الغربية رابعة. فأي امن او استقرار يتحقق بعد ذلك؟ وهل يمكن الغاء شعوب كاملة مع تجاربها باستخدام العنف السلطوي المنظم؟ وهل من المروءة بمكان استعداء مقاومة الاحتلال في مقابل الحصول على دعم امني وإعلامي يعادل ذلك؟

حان الوقت لإصلاح المسار والتخلي عن التلاعب بالمعاني والمصطلحات، ومنح الشعوب حقها في تقرير المصير ومقاومة الاحتلال والسعي لإقامة أنظمة العدل التي تساوي بين المواطنين وتفتح لهم الشراكة في الحكم والادارة.

د. سعيد الشهابي /القدس العربي