تعز العز

اليمن بين سبتمبريـــــــــن.. نـضـال الـسـيـادة مـسـتمـر

أحدث انقساماً إقليمياً ودولـــــياً شكلته حسابات المصالح حينها
اليمن بين سبتمبريـــــــــن.. نـضـال الـسـيـادة مـسـتمـر
الثورة / إبراهيم الحكيم

في مثل هذا اليوم قبل 53 عاما مضت بدأ ضد اليمن عدوان غاشم لا يختلف عن عدوان اليوم: دوافع وغايات، أطرافا وأدوات، جرما ومآلات، ومع أنه استمر سبع سنوات وانتهى بمفاوضات سياسية فرضتها متغيرات في خارطة التحالفات الإقليمية والدولية وسقوط “مشاريع” هيمنة، إلا أنه فرض متغيرات محلية وإقليمية، تصنف انحرفات عن مسار “26 سبتمبر” ظل أبرزها افتقاد السيادة الوطنية والخضوع للوصاية الخارجية وتحديدا السعودية، وكان طبيعيا أن تغدو وقود تجدد المنطلقات لثورة يمنية أخرى، ومتوقعا أن تجابه التحديات نفسها.

بين سبتمبرين
* بين “26 سبتمبر” و “21 سبتمبر” علاقة وثيقة جدا رغم اختلاف العناوين .. كلا الحدثين أرعبا “آل سعود” فسعوا في وأدهما وشنوا على إثرهما عدوانا غاشما على اليمن. مع فارق أن الأول انتهى بعد سبع سنوات برضوخ لوصاية آل سعود على اليمن و”لجنة خاصة” لعملائها، والثاني بدأ من كسر الوصاية وينبغي أن يتجاوزها إلى استعادة السيادة.
كانت دولة “آل سعود” الطارئة على التاريخ بأمومة الاحتلال البريطاني المتهاوي والمندحر من أرجاء العالم، تسعى إلى تثبيت الكيان السعودي وتوسعه، وتحت ذريعة مساندة “حاكم اليمن الإمام المسلم الشرعي” محمد البدر بن أحمد يحيى حميد الدين، نكاية بتحررية وقومية جمهورية مصر جمال عبد الناصر “الاشتراكية الشيوعية الملحدة”!.
برز هدف قمع “الحركات التحررية” العربية ومشروع “القومية العربية” هدفا مشتركا للكيان السعودي ومن ورائه حلف قوى الاستكبار الغربي “الأنجلو صهيوني”، لكنه لم يكن الهدف الوحيد والدافع الأوحد للكيان السعودي من شن عدوانه الغاشم على اليمن بكل ما أوتي من قوة مستعينا بثروة الطفرة النفطية ماليا وعسكريا وتسييس الخطاب الديني.
كان الهدف السعودي الخليجي حماية ممالكهم الطارئة من المد التحرري الجمهوري والسعي لتثبيت ما انتزعه الكيان السعودي والاحتلال البريطاني في حربهما المشتركة على اليمن شمالا وغربا جنوبا وشرقا على اليمن، من أراض يمنية شاسعة بموجب معاهدتي الهدنة مع الإمام يحيى بن حميد الدين، المقيدتان بمدتي تأجير 20 أو 40 عاما.
لكن كيان “آل سعود” والاحتلال البريطاني لجنوب اليمن لم يفلحا في غايتهما، إذ اندلعت بالفعل ثورة اليمنيين في جنوب اليمن (14 أكتوبر 1963) ورفض البدر التنازل عن الأراضي اليمنية باعتباره “لا يملك الحق” وأن تجديد المعاهدتين “قرار يمني يتخذه من يحكم اليمن وليس من صار خارجه”، وهو ما لم يعجب السعودية ويفسر رحيل الإمام البدر في نهاية حياته إلى المغرب ثم إلى لندن حيث توفي.
الحال نفسها تتكرر اليوم من جديد وبظروف مشابهة تقريبا على المستوى المحلي يمنيا وإقليميا ودوليا، فـ “آل سعود” في هذا العدوان الغاشم على اليمن، من ناحية يسعون إلى ضمان ضعف اليمن وتضعضعه وضمان تبعيته لها بداعي الحاجة أو الوصاية عبر تجديدها نفوذ عملائها وأدواتها في الداخل المتساقطة إثر “21 سبتمبر” 2014م.
ومن ناحية ثانية يسعى “آل سعود” إلى استكمال دورهم في تنفيذ “مخطط الشرق الأوسط الجديد” المعلن عنه أميركيا مع بداية الألفية، على أساس أثني (طوائف دينية وعرقية)، بما يضمن تجزئ المجزأ وتقسيم المقسم من الوطن العربي، تتجاوز ما فات تقسيم “اتفاقية سايكس بيكو”، وتفتت رابطي القومية والعقيدة لشعوب المنطقة العربية.
وبجانب تورط “آل سعود” في تنفيذ هذا المخطط بكل من العراق وسوريا وليبيا وغيرهما، تواصل تمويل أدوات تنفيذه في اليمن، عبر الدفع بإعادة تشكيل الخارطة اليمنية وتقسيمه تحت غطاء “نظام اتحادي فيدرالي” يضمن لها تعميد ما تحت يدها من أراض يمنية والزيادة عليها أيضا، خصوصا حيث حقول النفط الجديدة الحدودية المشتركة.
لم تعد سرا، الاكتشافات النفطية في الربع الخالي والوديعة وشرورة وغيرهما، واكتناز هذا المربع أكبر بحيرة نفطية في العالم، وحلم السعودية منذ نحو عشرين عاما، وسعيها التآمري سياسياً واقتصادياً وإعلامياً ومؤخراً عسكرياً، إلى فرض مد أنبوب لتصدير النفط من هذه البحيرة عبر منفذ على البحر العربي، يمر من اليمن قطعاً.
الحلم القديم المتجدد لآل سعود منذ تسعينيات القرن الماضي ودافع دعمها الانفصال جنوب اليمن في حرب 1994، توفيرا للتكلفة النقل والتصدير عبر البحر الأحمر وبعيدا عن “خطر هيمنة إيران على مضيق هرمز” في الخليج العربي، وهو ما أفصح عنه ما يسمى “مشروع قناة سلمان” التي تمر من الخليج العربي إلى البحر العربي.
يفسر هذا المخطط بنظر مراقبين هذا التهافت الخليجي على المشاركة في تحالف العدوان السعودي على اليمن والمجازفة بمشاركة أمراء الأسر الحاكمة لدويلات الخليج ضمن قوات مرتزقة العدوان الغازية في جنوب اليمن ومارب، تهافت إثبات هذه الأسر حضورا في “رحلة الصيد” وضمان حصتها من “الغنيمة”.
يقضي المخطط شق هذه القناة بكلفة 80 مليار دولار، لتمر عبر الربع الخالي مخترقة محافظة حضرموت. حسبما أعلن أخيراً، رئيس مركز “القرن العربي” للدراسات في الرياض، سعد بن عمر، كاشفاً عن إعداد دراسة متكاملة لربط الخليج العربي ببحر العرب عبر قناة مائية “كنّا نطلق عليه اسم قناة العرب، وأخيراً أطلقنا عليه اسم قناة سلمان”.
عدوان الأمس
* قبل 50 عاماً مضت.. شهد العالم انقساماً إقليمياً ودولياً حيال الأحداث في اليمن، ارتهن لحسابات المصالح.. ما بين مؤيد لقيام الجمهورية والإطاحة بالملكية.. وبين مناصر للأخيرة وداعم لدحر الجمهورية ووأد ما يترتب على قيامها من نتائج تتجاوز اليمن إلى محيطه الإقليمي والدولي إجمالاً.. حداً كاد يشعل حرباً عالمية ثالثة.. تجلت نذرها في نوع التدخلات الإقليمية والدولية ومداها، وتجاوزها الدعم السياسي إلى الدعم المالي والعسكري، في معارك حسم مصير يمن ما بعد السادس والعشرين من سبتمبر، وطوال قرابة ثماني سنوات، طاحنة.
لا غرابة.. فالأحداث في اليمن عام 1962م، كانت تعلن وصول المد الثوري التحرري إلى المنطقة.. ونجاح الثورة في شمال اليمن، كان إيذانا لنجاحها في جنوبه، ولتدشين امتداد هذا المد الثوري التحرري إلى ارجاء منطقة شبه الجزيرة العربية، كافة والدويلات التي أنشأها الاحتلال الأجنبي وعين حكامها.
كانت إمارات وسلطنات الخليج العربي، لا تزال ترزح تحت وطأة الاحتلال البريطاني الذي أنشأها وصبغ عليها طابع دويلات مستقلة تخضع معاهدات “الحماية والوصاية” البريطانية، لضمان مصالحها الاقتصادية النفطية والتجارية والعسكرية المحضة، بعد مغادرتها الصورية للمنطقة عسكرياً!!.
الحال نفسها كان يستميت الاحتلال البريطاني في فرضه أمراً واقعاً في جنوب اليمن الذي وصله وهو اربع مشيخات طامحة في الانفصال عن اليمن، وغادرها وهي 23 سلطنة وإمارة ومشيخة جمعها تحت ما يسمى “اتحاد محميات الجنوب العربي” ثم بعد فشله في فصل عدن عنه، جمعها عشية ثورة 26 سبتمبر، تحت “دولة الجنوب العربي”!!.
كان طبيعياً، أن تكتسب الثورة في اليمن عداء الأنظمة الملكية والسلطانية والأميرية في المنطقة، مثلما كان طبيعياً أن تنحاز هذه الأنظمة سياسياً ومادياً ومعنوياً، بل وعسكرياً أيضا، إلى صف النظام الملكي في اليمن، وبدعم قوى الاستكبار التي تسمى تجميلاً دول الاستعمار، رغم انتفاء صفة وفعل الإعمار والتعمير عنها فعلياً!!.

استنفار دولي
* على الصعيد الدولي.. كان مستحيلاً -كما لا يزال- أن لا يعني ما يحدث في اليمن، دول العالم كافة، تبعاً لمعطيات القدر الاستراتيجي “الجيوبولتك” أو الجغرافيا السياسية لموقع اليمن، بوصفه حلقة الوصل بين كبرى قارات العالم، وأهمها من حيث كثافة التوطن السكاني وقدمه، وكثافة الثروات الطبيعية وتنوعها.
استرعت أحداث اليمن اهتماماً دولياً، من جانب القوى المتصارعة في سياق الحرب الباردة، على مواطن الثروات والأسواق الاستهلاكية، والتي مثل اليمن، على مر التاريخ، ساحة محورية لحسم تصفيات القوى المتصارعة عليها، صعوداً وهبوطاً، وفق وقائع التاريخ.
كانت الحرب الباردة بين قطبي العالم: المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي (آنذاك)، على أشدها في صراع النفوذ وسباق الزحف على آبار النفط والممرات البحرية الأهم في العالم (الخليج العربي وباب المندب وقناة السويس).
في هذا السياق، يرى الكاتب السياسي المعروف محمد حسنين هيكل، في كتابه “لمصر.. لا لعبد الناصر”، أن الحرب في اليمن “اتسعت لا لأن هذا الطرف العربي أو ذاك تدخل فيها، وإنما اتسعت الحرب حينما تدخلت فيها قوى السيطرة العالمية”.(ص: 56).
لذلك، سرعان ما تحددت مواقف القوى الدولية حيال ما يعتمل في شمال اليمن، لتبرز تبعاً تداخلات مباشرة وغير مباشرة من جانب هذه القوى في محاولة لتوجيه مجريات الأحداث والسير بها باتجاه ما يخدم مصالح كل قوة من هذه القوى، على المديين المنظور والبعيد.
تجاوزت هذه التدخلات، الموقف السياسي المؤيد والمعارض، إلى الدعم المادي المالي والعسكري، لنيران المعارك الدائرة في شمال اليمن، براً وبحراً وجواً، فيما بدا أنه نذر اندلاع حرب عالمية ثالثة وشيكة، على طريق حسم صراع قطبية العالم المتصارعة حينها.

معسكر الملكية
* برز هذا – وفق المصادر التاريخية والوثائق العسكرية المنشورة – في تكالب أربع قوى دولية رئيسة إلى صف الملكية في اليمن، تمثلت في كل من: المملكة المتحدة البريطانية التي كانت لا تزال تحتل جنوب اليمن ودول الخليج العربي، وتستكمل تشييد كيانات (ممالك) النفط العربية البريطانية.
وفرنسا التي لا تزال تسيطر على جيبوتي .. والكيان الصهيوني المولود بريطانيا أيضاً (إسرائيل) الذي يخوض حرب تعميد احتلال فلسطين وتثبيت أركان دولتها كقوة إقليمية، ومن ورائها الولايات المتحدة الأمريكية التي كان موقفها السياسي مراوغاً لصالح نصرة الملكية.
وامتداداً لهذه القوى الدولية، ناصرت أربع مراكز قوى إقليمية تابعة لها، الملكية في اليمن، مالياً وعسكرياً، وبالطبع سياسياً، وهي: المملكة العربية السعودية، التي كانت تسعى إلى أن تكون مركز قيادة المنطقة وتثبيت ما انتزعته من أراضي اليمن، والمملكة الأردنية الهاشمية، وإيران وباكستان.

حرب المصالح
* كانت بريطانيا تدرك خطر نجاح الثورة في شمال اليمن وقيام الجمهورية على وجودها في جنوب اليمن وتبعاً في المنطقة إجمالاً، بالذات بعد اشتداد مخاضات المد الثوري التحرري في جنوب اليمن منذ بداية الخمسينيات، بدعم مصري على المستوى الإقليمي، ودعم روسي على المستوى الدولي.
أما فرنسا، الجمهورية التي ترفع شعار الحرية، فكانت مصلحتها من دعم الملكية في اليمن، تكمن في تثبيت وجودها في جيبوتي كشريك ثان لبريطانيا في السيطرة على بوابة الملاحة العالمية (باب المندب)، والحفاظ على ما تحت أيديها من أراض محتلة في جنوب أفريقيا وشمالها.
فضلاً عن ما اعتبرته فرنسا، فرصة للمساهمة في الانتقام من مصر وإضعاف نظامها الداعم للثورة في الجزائر واستقلالها، عبر إنهاك الجيش المصري المتواجد في شمال اليمن دعماً للجمهورية الوليدة في وجه جيوش “الملكية” والأطراف الإقليمية والدولية الداعمة لها.
وبالمثل، كانت مصلحة الكيان الصهيوني (إسرائيل) من المشاركة في الحرب على اليمن، توسيع دائرة هذه الحرب وإغراق الجيش المصري فيها، واستنزافه لتشتيت إمكاناته من ناحية، واختبار قدراته الحربية، وتأجيل خطط تقوية وضعه في سيناء.
أما الولايات المتحدة الأميركية، وعلى الرغم من إعلانها المتأخر وعقب مفاوضات دامت الشهرين، الاعتراف بالجمهورية في شمال اليمن في 19 ديسمبر1962م، إلا أنها تبعت مصالحها الإستراتيجية تحت لافتة “التصدي للتوسع السوفيتي في المنطقة”.
بالنسبة لإيران، كانت مصالحها حينها لا تزال مرهونة بالتبعية الأميركية، وتحت شعار الانحياز لدعم أي امتداد مباشر أو غير مباشر للحكم الشيعي، دعمت إيران رسميا “الملكيين” بالمال “فقد وجد الشاه محمد رضا بهلوي أنه يجب عليه دعم الإمام الشيعي الزيدي محمد البدر”.
أما باكستان، فاختارت مناصرة المعسكر السعودي وتبعاً الغربي، وترى المصادر المتباينة أن مناصرتها للملكية في اليمن ببيعها كميات هائلة من البنادق، يرجع إلى دافع اقتصادي انتفاعي محض، إذ “كانت قد رأت فيها فرصة للتكسب من الحرب”.

معسكر الجمهورية
* في المقابل، أفرزت حسابات المصالح وصراعاتها أيضاً، ببعديها الإقليمي والدولي، معسكراً جمهورياً أو داعماً للجمهورية في اليمن، تألف دولياً، من: الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، وجمهورية الصين، بجانب كل من ألمانيا وإيطاليا وتشيكوسلوفاكيا.
وانعكس هذا إقليمياً، انضمام أربع دول محورية امتداداً للدول الممثلة لمنظومة المعسكر الشرقي الاشتراكية في مواجهة منظومة المعسكر الغربي الليبرالي، ضم المعسكر الجمهوري: جمهورية مصر العربية المتحدة، وسوريا، رغم انفصالها عن مصر، والعراق، بعد الإطاحة بملكها، والجزائر.
كانت مصلحة الاتحاد السوفيتي من دعم الجمهورية في اليمن بنظر المؤرخين، دعم إنهاء سيطرة القوى الغربية على المنطقة ومقدراتها، وتعزيز مصالحها عبر مد نفوذها في المنطقة إيديولوجيا واقتصادياً وعسكرياً، تحت عباءة الفكر الاشتراكي الراديكالي.
ولهذا “كان الاتحاد السوفيتي أول دولة تعترف بالنظام الجديد في 28 سبتمبر، وأكد خروشوف لرئيس الوزارة اليمنية: أن أي عدوان ضد اليمن سينظر إليه باعتباره عملاً عدوانياً ضد جمهوريات الاتحاد السوفيتي الاشتراكية”.(الثورة والحرب، ص: 129)
كذلك الحال مع كل من دول المنظومة الاشتراكية: ألمانيا وإيطاليا وتشيكوسلوفاكيا، وجمهورية الصين التي ترتبط مع اليمن بعلاقات تعاون قديمة، تعود إلى أعقاب مؤتمر “باندونج” باندونيسيا 1955م، وتوجهها دبلوماسياً باتجاه تطوير علاقتها مع العرب.
هدفت الصين إلى:”الحد من النفوذ السوفيتي في المنطقة العربية، ودفع النفوذ الغربي وقواعده منها، وإيجاد أسواق تجارية لمنتجاتها العسكرية والاستهلاكية فيها، ونشر الفكر المأوي عبر الدعم الثوري والسياسي”.(العلاقات اليمنية الصينية، ص: 454-455).
إقليمياً، كانت مصالح مصر من دعم الجمهورية في اليمن، تكمن في تعزيز القيادة المصرية للمنطقة العربية، كمركز رئيس لحركة التحرر العربي و”مشروع القومية العربية”، والمواجهة مع إسرائيل والقوى الداعمة لها، والمناهضة لمصر الثورية الجمهورية.
في هذا، يذكر السكرتير الإعلامي للرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، الصحافي والمحلل السياسي المعروف محمد حسنين هيكل، أن القيادة المصرية كانت تدرك “أن ثورة اليمن تقف وحدها في مهب عاصفة القوى المعادية للتحرر العربي،..”.
ويروي هيكل في كتابه “لمصر..لا عبد الناصر”، أن عبد الناصر رأى:”أن مستقبل الحركة الوطنية العربية معلق في الميزان، وأن تدخل بعض قوات الصاعقة وسرب واحد من الطيران يكفي..وبهذا المنطق تدخلت مصر لنجدة الثورة في اليمن،..” (ص: 55).
كما نُسب إلى وزير الدفاع المصري حينها المشير عبد الحكيم عامر قوله أن “وجود جمهورية على أرض اليمن هو أمر حيوي بالنسبة لمصر لضمان السيطرة على البحر الأحمر من قناة السويس إلى مضيق باب المندب” (الحرب اليمنية المصرية،ص: ).
وتشير موسوعة المقاتل السعودية التابعة للطيار السعودي سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، إلى أنه “كان ينظر للحرب في اليمن على أنها وسيلة لكسب النقاط في صراعه مع النظام الملكي السعودي الذي أعتقد عبد الناصر أنه سعى إلى فك الوحدة بين مصر وسوريا عام 1961م”.

وقائع الحرب
* في البداية قررت مصر إرسال كتيبة صاعقة وسرب طائرات لغرض حماية الرئيس السلال ومجموعة الضباط الأحرار، وتقييم الموقف وتقدير احتياجات مجلس قيادة الثورة اليمني. ووصلت الكتيبة إلى مدينة الحديدة في الخامس من أكتوبر 1962م.
لكن الأحداث سرعان ما أطلق مخاوف السعودية من المد الناصري الثوري، فأرسلت حتى الثامن من أكتوبر أربع طائرات شحن محملة بالسلاح القبائل الموالية للإمام البدر، لكن الطيارين اتجهوا إلى أسوان المصرية طالبين اللجوء.
وفي المنطقة المجاورة لنجران “أنشأت السعودية معسكراً للإمام البدر، وعينت ضباطاً سعوديين لتنظيم وتدريب أنصاره.. وفي 3 يناير 1963م، أصدرت أمراً بالتعبئة العامة، وألغت إجازات رجال الجيش”.(الثورة والحرب، ص: 162).
كما “صرحت العربية السعودية المنزعجة في اليوم التالي بأن مساعداتها للملكيين ستتزايد، وقامت بإرسال ثلاثة أسراب جوية من الطيران السعودي إلى مطارات بالقرب من الحدود اليمنية،وتحريك المدافع المضادة للطائرات إلى نجران،..”. (الثورة والحرب، ص: 162).
من جهتها، “ظلت الأردن – باعتبارها دولة ملكية – معادية للنظام الجمهوري الجديد في اليمن. “وكان الملك حسين خلال تلك الفترة مناوئاً لعبد الناصر بسبب دعاية الجمهورية العربية المتحدة الموجهة ضد بلاده”. (الثورة والحرب، ص: 150).
وأوفد الملك حسين مبعوثاً (رئيس أركان جيشه) إلى الأمير الحسن عندما وصل إلى جدة لأول مرة قادماً من نيويورك ليعبر له عن صداقة الملك وتعاطفه، وإجراء مباحثات معه (الثورة والحرب، ص: 150).
كما قام الملك (حسين بن طلال) بنقل الصحافيين لحضور مؤتمر الإمام (البدر) الصحفي المثير، وبعث ببعض المساعدات المادية للملكيين- ليست على قدر كبير،.. وأعار عدداً قليلاً من ضباط الجيش الأردني”. (الثورة والحرب، ص: 151).
ويذكر الدكتور عبد الخالق لاشين أن الملك حسين “اعترف في نوفمبر 1962م بأن نحو ستين من الضباط الأردنيين يساعدون الملكيين” بتقديم المشورة والدعم والمعاونة في تدريب الملكيين في معسكرات بالقرب من الحدود اليمنية”.(الثورة والحرب، ص: 151).
كما “تعاطفت باكستان مع الملكيين. وبعثت – بتحفظ وتكتم شديدين – بقليل من الدعم المادي تكون في معظمه من بنادق بريطانية قديمة،.. وسرعان ما انضمت إيران التي كان شاهها في صراع دائم مع عبد الناصر،..”. (الثورة والحرب، ص:151 – 221)
ومع أن المساعدات المادية كانت دائماً من العربية السعودية،… إلا أن مساعدات قيمة قُدمت من الاتحاد الفيدرالي لإمارات الجنوب العربية (المحميات البريطانية) وخاصة من جانب حاكم إمارة بيحان. (الثورة والحرب، ص: 221).
خلال الأسبوع الأول من يناير 1964م،..استطاع عبد الناصر في اجتماعات مؤتمر قمة عربي،..أن يباعد بين الملك حسين وبين الوقوف إلى جانب العربية السعودية،.. ولم تعترف الأردن رسمياً بالنظام الجمهوري إلا في يوليو،..” (الثورة والحرب، ص: 209)

التآمر الدولي
* واجهت القوات اليمنية الجمهورية والقوات المصرية وخاضت معارك طاحنة مع فرق قوات الملكيين التي وصل عددها إلى 10 آلاف فرد، وتكونت من وحدات القبائل وجنود الجيش النظامي السابق المخدوعين بالدعاية الملكية”. (تاريخ اليمن المعاصر، ص: 233)
كانت تكتيكات “الملكيين” بحسب المصادر العربية والأجنبية محصورة في طرق حرب العصابات لعزل القوات التقليدية المصرية – اليمنية، والقيام بهجمات على خطوط الإمداد.. وظل تدفق المال الملكي يغري كثيراً من القبائل للانضمام إلى صفوفهم، والمرتزقة الأجانب أيضاً.
لكن التصعيد الفعلي للحرب كان مع تدخل القوى الدولية،ففي “25 أكتوبر سمح البريطانيون لقوات الجيش الاتحادي من خلال إمارة بيحان أن تزود الملكيين بوسائل نقل وأسلحة وذخيرة وعتاد بغرض استخدامها في محور مارب”. (الثورة والحرب، ص: 155)
وفي 15 أكتوبر قصف الطيران الانجليزي مدينة البيضاء اليمنية الشمالية، ووفقاً لما أذاعه راديو جيبوتي، في 6 أكتوبر اخترق مئة جندي سعودي أراضي الجمهورية العربية اليمنية في المنطقة الشرقية إلا أنهم صدوا،… (تاريخ اليمن المعاصر، ص: 233)
ضاعفت بريطانيا عبر سلطات الاحتلال الانجليزي في عدن (والتي كانت قاعدة عسكرية بريطانية بحرية وجوية مركزية) من استعداداتها العسكرية حيث جعلت من محمية بيحان الجنوبية اليمنية مركزاً لمعسكر قوى الثورة المضادة (تاريخ الين المعاصر، ص: 134)
يشير الكاتب البريطاني كليف جونز إلى أن الأحداث في عدن ومحاولة اغتيال المندوب السامي (تريفاسكس) بينت ما يمكن أن يتوقع هنا إذا بقيت القوة المصرية حتى في أجزاء من اليمن إلى جانب زيادة خطر التغلغل الروسي في اليمن.
ويضيف جونز في كتابه “بريطانيا والحرب اليمنية الأهلية”، أن التغلغل الروسي كان سيضيف أعباء متزايدة للدفاع عن عدن” لافتاً إلى أن سكرتير وزارة المستعمرات البريطانية “دنكان ساندز” جادل بثبات لتقديم الدعم للملكيين.
لذلك، سمح البريطانيون بمرور قوافل السلاح إلى الملكيين عبر أراضي شريف إمارة بيحان في شبوة الخاضعة للحماية البريطانية، وقامت الطائرات الحربية البريطانية بعمليات نقل جوية لإعادة إمداد قوات الإمام، وتنفيذ عمليات عسكرية أيضاً.

تجنيد المرتزقة
* كما أرسلت بريطانيا وأمريكا مرتزقة من فرنسا، بلجيكا، وإنجلترا، لمساعدة الإمام البدر في التخطيط للحرب، وتدريب أفراد معسكراته الملكيين في نجران، على الأسلحة وزرع الألغام، واستخدام الصواريخ المضادة للدبابات، والاتصالات.
ويذكر الكاتب السياسي المعروف محمد حسنين هيكل، في كتابه “لمصر..لا لعبد الناصر”، أن” المخابرات المركزية الأمريكية جندت للحرب في لندن وسلحت أكثر من 15 ألفاً من الجنود المرتزقة الأجانب، إنجليز وألمان وفرنسيين وأمريكيين،..” (ص: 56).
يضيف: أن “المخابرات الأمريكية كانت تجند المرتزقة الأجانب للحرب في اليمن، وكانت مسؤولة عن عملياتهم وعن التنسيق بينهم وبين دورٍ لإسرائيل في مساعدتهم،… فكانت إسرائيل تتولى مسؤولية إلقاء الذخائر والأسلحة لهم بالطائرات،..”(ص: 56).
ويؤكد هيكل معرفة الرئيس الأمريكي جون كنيدي بذلك، وأن “أحد مساعديه، المستر (روبيرت) كومار،كان ضابط التنسيق بين البيت الأبيض وإدارة المخابرات الأمريكية،وكان كنيدي يسمي حرب اليمن: حرب كومار الخاصة” (ص:56-57).
برز بين هؤلاء المرتزقة “بروس كوند” الذي كان يعمل ضابطاً في الجيش الأمريكي برتبة رائد خلال الحرب العالمية الثانية وذهب إلى الشرق الأوسط بعد انتهاء الحرب وتعلم التخاطب باللغة العربية الفصحى، (الثورة والحرب، ص: 204)
ويذكر الضابط البريطاني إدجار أبالانس، أن “نصف المرتزقة كانوا من الفرنسيين والبلجيكيين، معظمهم من معلمي الأسلحة. وكان النصف الباقي من البريطانيين العاملين على أجهزة الاتصالات والمساعدات الطبية”. (الثورة والحرب، ص:221)
ونشرت جريدة الأهرام القاهرية العديد من الخطابات ضبطت بالقرب من الحدود اليمنية مع إمارة بيحان، وتتعلق بنشاطات لمنظمة وجدت من أجل توفير الرجال والإمدادات للملكيين، وتم تحديد اسم ضابط بريطاني سابق، .. (الثورة والحرب، ص: 217).
كما “وجدت إشارات تدل على القيام بأعمال تخريبية وإسقاط أسلحة للملكيين بالمظلات (الباراشوت) وكانت الخطابات موجهة إلى الرائد كوبر كانت مكتوبة باللغة الإنجليزية وكان بعضها بتوقيع النقيب طيار أنطوني بويل،..
وكان بويل “يعمل في خدمة المندوبين الساميين البريطانيين لاتحاد المحميات:سير شارلز جنونستون حتى يونيو 1963م،وخليفته سير كنيدي تريفاسكي،..وقد اعترف متحدث باسم الحكومة البريطانية -فيما بعد- بصحة تلك الخطابات”.(الثورة والحرب،ص: 218)
يقر كوبر أن البريطانيين “هيأوا عملياتهم العسكرية الخاصة بعد أن أثبتت المجموعات الإضافية من المرتزقة والأسلحة أنها غير كافيةَ، وأثبت الوحدات المُشَكَّلةَ حديثاً لإتحاد جيشِ الجنوب العربي أنها غير قادرة على معالَجة المشاكل”.

حرب دولية
* ويذكر الرائد كوبر في شهادة منشورة على موقع “حروب بريطانيا الصغيرة”، أن “طائرات هنتر البريطانية نفذت 1000 غارة، ومروحيات راف20 ألف غارة وقذفت 2508 صواريخ على قوات الجمهورية في عملية حريب في يونيو 1963م”.
كما يفيد كوبر أن القاعدة العسكرية البريطانية في عدن نشرت لعملية وادي ربوا “اللواء 39 كاملاً بقيادة من أيرلندا الشمالية، وثلاث كتاب مشاه مارينز ومدفعية ومدرعات وسرب طائرات “إس أي إس” ودعم طائرات سكاوت ومروحيات سيوكس”.
ويعترف بأن “الملكيين” في معارك حرض مع القوات المصرية واليمنية الجمهورية، “تلقوا من بريطانيا وفرنسا شحنات كبيرة من الأسلحة المتوسطة والثقيلة والذخائر عبر الإنزال المروحي بواسطة طائرات من جيبوتي في أكتوبر 1964م”. (أنظر: http://www.acig.org).
كما ساندت القوات الأمريكية الملكيين “من خلال سلاح الطيران الرابض في قاعدتها العسكرية بالظهران في المملكة العربية السعودية آنذاك، على فترات متفاوتة خلال الحرب، فضلاً عن إرسال أسطولها البحري إلى جدة لاستعراض القوة. (الثورة والحرب، ص: 154)
وقبيل أن يطلب الملكيون من الأمم المتحدة في 27 نوفمبر الإشراف على إجراء استفتاء عام بين القبائل، ورغم ترحيب مندوب الجمهورية في الأمم المتحدة، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية اعترضت عليها لأنها رأت أنها غير عملية”. (الثورة والحرب، ص: 164).
ما عطل أي حسم سريع للحرب، إذا “لم يتم اتخاذ إي إجراء أخرى.. كما لم تكن الأمم المتحدة كذلك بقادرة حتى شهر مارس 1963م على الإسهام في الشؤون اليمنية أساساً بسبب الضغط الأمريكي،…” (الثورة والحرب، ص: 173).
ووفر ذلك الدعم للإمام (البدر) تأييداً واسعاً ليس فقط على الصعيد العسكري، بل والصعيد السياسي الدولي،..وكان عاملاً حاسماً وأساسياً في إطالة أمد حرب واستنزاف الطاقات الثورية العربية، والذي بلغ ذروته بمأساة حرب يونيو 1967م”. (الثورة والحرب، ص: 19)

مشاركة إسرائيل
* كما أنشأت إسرائيل جسراً جوياً سرياً بين جيبوتي وشمال اليمن، لوأد الثورة اليمنية بواسطة طائرات إسرائيلية فرنسية الصنع، حسبما أقر “شابتاي شافيز” المدير السابق لوكالة الموساد، وآريل شارون في مقابلات منفصلة بعد ثلاثة عقود من الحدث.
هذا ما كشفه الكاتب البريطاني “كليف جونز” في كتابه “بريطانيا والحرب اليمنية الأهلية” نقلاً عن وثائق سرية للخارجية البريطانية، بأن كلاً من شابتاي وشارون أكدا “أن الدولة اليهودية اشتركت في نشاطات سرية في اليمن”.
يقول جونز: أن إسرائيل كانت الدولة الوحيدة التي تتعامل مع طائرات من نوع “ستراتوكروزر” الفرنسية الصنع، التي أسقطت إمدادات الغذاء والسلاح لقوات الإمام البدر، وكانت تعمل من جيبوتي” القاعدة العسكرية الفرنسية.
يضيف: أن الجنرال البريطاني “ماكلين” بدأ مباحثات مع هيرام بشأن تقديم دعم سري للملكيين، فقام “دافيد سمايلي” تحت اسم مستعار بأولى رحلاته الأربع إلى إسرائيل في خريف عام 1963م، والتقى بمسؤولي الدفاع الإسرائيلي”.
وينقل جونز في كتابه عن “سمايلي” بعد أربعة عقود من هذا الاتصال مع إسرائيل قوله:”..، لم يتسلم الإسرائيليون أية مبالغ وكانوا يرون في تورط المصريين في اليمن لصالحهم ولم تكن الإسقاطات تتم بصورة منتظمة”.
كما نقلت صحيفة سلاح الجو الإسرائيلي عن طيارين إسرائيليين “تنفيذهم 14 طلعة جوية فوق اليمن أسقطت أثناءها الأسلحة والعتاد العسكري والأغذية والمواد الطبية، للقوات المناؤة للثورة اليمنية في عملية أعطيت اسم: صلصة”. (قناة الجزيرة:6/5/2008م).
وتحت عنوان “الحملة الحربية لحرب العصابات: أكتوبر 1963 – سبتمبر 1965م”، يشير الكاتب البريطاني كليف جونز، إلى الطبيعة العشوائية المتزايدة للمساهمة الفرنسية التي أجبرت على إجراء مراجعة أساسية جرت مطلع خريف 1963م.
كانت المراجعة لمدى الالتزام بالمرتزقة فـ “أوجدت خطة هيكلية لعملية تقديم دعم مستديم وتدريب للقوات الملكية في اليمن بقيادة بريطانية، وظلت إقامة شبكة اتصالات متماسكة لربط مختلف الجبهات على قمة الأولويات”.
وتحت “عنوان أزمة 1964م” يشير جونز،إلى أن “منظمة المرتزقة البريطانية بدأت مع نهاية 1963م، تخطط لمرحلتين تاليتين من الحرب مصممتين لإيجاد الصلة بين الجبهات الملكية جغرافياً وحرمان دائم للقوات المصرية من طرق الإمداد الرئيسة”.
كان الخطة تعول على ذلك أن يساعد “على قيام الانتفاضات بين رجال القبائل الذين تسيطر أراضيهم على الطرق التي تربط الحديدة وتعز وصعدة بصنعاء”..مشيراً إلى فداحة الخسائر المصرية الناجمة عن الكمائن التي ينصبها القبائل الموالين للملكيين.

دعم الجمهورية
* كان يمن أن تنتصر الملكية في اليمن، لولا رجحت كفة الجمهورية، دعم القوى الدولية، المنضوية في المعسكر الشرقي والمنظومة الاشتراكية، بقيادة الاتحاد السوفيتي، الذي قدم بجانب الدعم السياسي في مجلس الأمن، دعماً اقتصادياً وعسكرياً أيضاً.
وقعت الاتحاد السوفيتي مع الجمهورية في شمال اليمن اتفاقية اقتصادية في ديسمبر، وصل بموجبها نحو400 مهندس وفني وخبير زراعي ومائي سوفيتي لدراسة إمكانات تطوير الصناعة وخدمات الإذاعة وإقامة خدمات مصرفية،..(الثورة والحرب، ص: 133).
وأنهى نحو 500 خبير سوفيتي أعمال توسعة مطار صنعاء الدولي خلال عدة أشهر، ليتسنى للقاذفات الثقيلة التي ظلت رابضة في مطارات مصر وكان عليها أن تقطع المسافة الطويلة فوق البحر الأحمر،القيام بأي غارة داخل اليمن”.(الثورة والحرب، ص: 188)
ثم في 21 مارس 1964م، وقع السلال مع رئيس الاتحاد السوفيتي برجنيف “معاهدة صداقة بين البلدين، مدتها خمس سنوات، وأكدت موسكو اعترافها بـ “الاستقلال الكامل والشامل للجمهورية العربية اليمنية وسيادتها على التراب اليمني، ووافقت على تقدم مساعدات” (هوفشتادر،ص: 195-196).
وفي مايو عرض رئيس الوزراء السوفيتي مستر كوسيجن خلال زيارته للقاهرة، على حسن العمري، “أن يسلح ويجهز جيشاً يمنياً تبلغ قوته 18 ألف مقاتل، مصرحاً بأن ألمانيا الديمقراطية ستقوم بإرسال التجهيزات اللازمة”.(الثورة والحرب، ص: 266)
كما قام السلال برحلة خارجية للعواصم الشيوعية، في 1964م ورددت الأنباء بأن بنك الكوميكون (السوق المشتركة للدول الاشتراكية) سوف يمنح اليمن تسهيلات بنكية محدود بسبعة ملايين دولار”. (الثورة والحرب، ص:214).
التزمت تشيكوسلوفاكيا “بتقديم الملابس والأحذية والأدوية والجرارات الزراعية ومعونات لتدريب الجيش اليمني والطيارين اليمنيين، وأن تلك الأسلحة التشيكية لن ترسل عبر مصر ولكن مباشرة إلى اليمن. (الثورة والحرب، ص:214).
وفي نفس الوقت (1964م) التزمت ألمانيا الديمقراطية للرئيس السلال “بتقديم آلات زراعية ومصنعاً للنسيج ومشفيين مجهزين مزودين بخبراء طب المناطق الحارة،..”. (الثورة والحرب، ص:214)

مساندة الصين
* ومثلما كانت اليمن ثالث دولة عربية بعد مصر وسوريا، تعترف بالصين الشعبية وتسحب الاعتراف بحكومة الصين الوطنية (تايوان)، فإن الصين كانت في مقدمة الدول التي اعترفت بقيام الجمهورية في شمال اليمن.
أنهى الصينيون في ديسمبر 1961م مشروع طريق (الحديدة- صنعاء) بطول (231) كم بقرض طويل الأجل، ليلعب الطريق دوراً محورياً في دعم الثورة اليمنية”.(العلاقات اليمنية الصينية، اليمن والدول الكبرى، وكالة سبأ سبأ، ص: 457).
ويذكر أحمد جابر في كتابه “اليمن والصين:50 عاماً من الصداقة والتعاون”، أن زيارة السلال في يونيو 1964م لبكين أثمرت توقيع اتفاقية جديدة للصداقة والتعاون مدتها 10 أعوام، أكدت دعم الصين للجمهورية مالياً ولوجستياً فنياً وتقنياً.
في الرابع من سبتمبر 1964م، أعلنت الصين منح اليمن قرضا بقيمة 10 ملايين جنية إسترليني لشق وسفلتة طريق “صنعاء – صعدة” بطول 200 ميل، وبناء مدرسة للتعليم الفني في صنعاء، وإنشاء مصنع الغزل والنسيج المتفق عليه قبل الثورة.
ويلفت جابر إلى أن “الصين قدمت دعماً مباشراً وغير مباشر للثورة الوليدة عندما تعرضت لهجمات شرسة من قبل القوى الملكية عامي 1967-1968م، وبالمقابل كانت اليمن تدعم بقوة المساعي الصينية لاستعادة مقعدها في الأمم المتحدة”.
خسائر الحرب
* في هذه الأثناء، كانت القوات المصرية الداعمة للثورة، قد تصاعدت من 1000 ضابط وجندي يؤلفون كتيبة صاعقة، إلى 5 آلاف في أكتوبر 1963م، لترتفع مع نهاية العام إلى 15 ألف مقاتل، مع تصاعد القوى المعادية للجمهورية.
هذا ما يذكره وزير الحربية الأسبق في مصر، الفريق أول محمد فوزي في مذكراته “حرب الثلاث سنوات: 1967-1970م”.. موضحاً أن القوات المصرية وصلت في صيف 1965م إلى 70 ألف مقاتل تدعمها الطائرات وبعض القطع البحرية،.. (ص: 22-24).
تم تقسيم القوات المصرية إلى 13 لواء مشاة، ملحقين بفرقة مدفعية، وفرقة دبابات، وقوات صاعقة وألوية مظلات. وتذكر المصادر إظهار المصريين مستوى عالياً من المبادرة والابتكار العسكري، بتعديل طائرات التدريب والناقلات السوفيتية، لتعمل كطائرات تمشيط وقاذفات.
لكن المصريين تكبدوا خسائر بالغة في الأرواح، بسبب حرب عصابات الفصائل الملكية والتآمر الدولي الداعم لها.. ومع أن لا إحصاءات دقيقة بإجمالي شهداء وجرحى القوات المصرية في حرب اليمن، إلا أن ثمة تقديرات معتمدة.
“ففي شهر نوفمبر 1964م صرح وزير خارجية الملكية في المنفى أحمد الشامي أن القوات المصرية تكبدت منذ بداية الحرب وحتى ذلك التاريخ 25 ألف قتيل، من بينهم 3 آلاف ضابط”. (اليمن .. الثورة والحرب، ص:15).
لكن “أحد المسؤولين اليمنيين الآخرين صرح بأن حجم تلك الخسائر خلال نفس الفترة يتراوح ما بين خمسة آلاف إلى ثمانية آلاف قتيل، ومن المؤكد أن تلك الأرقام قد تصاعدت بكثير حتى تاريخ “انسحاب” القوات المصرية من اليمن”.(الثورة والحرب، ص: 15).
كان الانسحاب الكامل للقوات المصرية خلال خريف عام 1967م وواجه هجمات بالغة أثناء عملية “الانسحاب” ذاتها.. ما يبين فداحة حجم تلك الخسائر البشرية التي كبدتها مصر خلال عملياتها العسكرية في اليمن، (الثورة والحرب، ص: 15).
يقابلها من الجانب اليمني، ملكيين وجمهوريين”خسائر بشرية رهيبة تراوحت تقديراتها ما بين مائة ألف قتيل و220 ألف قتيل خلال نفس الفترة المشار إليها لنفس المصادر، من دون إضافة حجم الجرحى والمصابين والمشوهين”الثورة والحرب، ص: 15).

نفقات الحرب
* أما على الصعيد المالي، فتشير المصادر إلى “إنفاق السعودية في عام 1963 وحده، 15 مليون دولار لتجهيز القبائل اليمنية الموالية للملكيين بالسلاح، وتأجير المرتزقة الأوروبيين وإنشاء محطة إذاعية خاصة بهم”.
فيما يذكر الفريق محمد فوزي في مذكراته ما يؤكد تحمل مصر نفقات حرب اليمن، و”أن معدل الصرف خلال السنوات الأربع – دون أن يحددها، ربما 63-1966م- لم يتعد 90 مليون جنيه مصري”.. (حرب الثلاث سنوات، ص:26).
ويضيف فوزي: “كانت الميزانية المخصصة لليمن في مصر عام 1966م هي 20,8 مليون جنية كعملة محلية إضافة إلى 1.3 مليون جنية كعملة صعبة، أي أن مجموعها، هو 21,8 مليون جنيه، وهي أكبر ميزانية خلال أربع سنوات”. (حرب الثلاث سنوات، ص:26).

حصار صنعاء
* كان الانسحاب المصري على إثر الاتفاق النهائي والذي طبق فعلياً بين الرئيس جمال عبد الناصر والملك فيصل بن عبد العزيز، بوقف الحرب في اليمن، وسحب كل منهما دعمه ويده من اليمن، ليحسم اليمنيون أمرهم بنفسهم.
لكن الملكيين انتهزوا فرصة انسحاب المصريين، ونفذوا في نوفمبر 1967، حصاراً محكماً على عاصمة الجمهورية صنعاء.. مستغلين تداعيات حركة 5 نوفمبر والانقلاب على السلال أثناء زيارته لبغداد، على تماسك الجمهوريين.
إضافة إلى فارق عدد الملكيين إلى الجمهوريين بنسبة (جندي جمهوري مقابل كل 7 ملكيين)..لكن الجيش الجمهوري والجيش الشعبي والمقاومة الشعبية، سطروا بطولات في الصمود والمقاومة، والتماسك والاستبسال.(حصار السبعين يوماً،ص:1104).
رفع الجمهوريون شعار “الجمهورية أو الموت”.. وصمدوا على قلب رجل واحد، في وجه الحصار الذي كاد يستنزف كل ما بداخل صنعاء من تموين، ووجدوا دعماً معنوياً ومادياً من كل المحافظات المجاورة والجنوبية.
كذلك مصر، لم تتردد في تقديم الدعم، رغم هزيمة يونيو 1967م، “فأمر عبد الناصر وزير الحربية بتجهيز معونة عسكرية مكونة من ذخائر وأسلحة خفيفة قدرت بمليون طلقة وقط أسلحة خفيفة ومتنوعة”. (حصار السبعين يوماً،ص:1109-1111).
كما نفذت ناقلات الأنتونوف (إيه إن-12) المصرية جسراً جوياً لنقل أطنان من الطعام والوقود إلى العاصمة المحاصرة.فيما قدم السوريون الطيارين لقيادة الطائرات اليمنية، وبعض الأسلحة الخفيفة والمؤن العسكرية،..”. (حصار السبعين يوماً، ص:1111).
ولم تتردد المنظومة الاشتراكية، وبالذات الاتحاد السوفيتي،الذي أمد صنعاء المحاصرة بالعتاد الحربي والوقود والغذاء والخبراء والطائرات المقاتلة والقاذفة والنقل، وشارك الطيارون السوفيت في المعارك. (حصار السبعين يوماً، ص: 1112).
كذلك الصين قدمت المساعدات المادية والعسكرية للثورة.. وبنجاح معركة فك حصار صنعاء، كان حسم الحرب وتحقيق الجمهورية الانتصار النهائي على الملكية.. فاعترفت السعودية بالجمهورية، واستقلال جنوب اليمن، واعتراف فرنسا.. فيما بقي الإمام البدر وحيداً، حتى توارى، ومن معه.(حصار السبعين يوماً،ص:1109-1111).

عدوان اليوم
* لا فرق إذن في الظروف والخلفيات، ولا في المنطلقات والغايات، للعدوان الغاشم السعودي الخليجي الأميركي الصهيوني على اليمن اليوم، وحصاره الظالم.. فالذرائع هي نفسها “الشرعية” مع اختلاف جهتها ومذهبها، مع اقحام فرية “المد الفارسي” الذي تنعدم شواهده في مقابل حضور شواهد “المد الوهابي” السعودي بسفور صارخ.
يبقى الفارق، أن العدوان اليوم الذي بدأ بكسر اليمنيين الوصاية السعودية التي فرضت عقب انتهاء عدوان الامس الذي تلا “26 سبتمبر” وانتهى بالرضوخ لوصاية السعودية على اليمن، عبر “اللجنة الخاصة” لعملائها الذين يجمع المراقبون أنهم كانوا أدوات عرقلة قيام أو استكمال بناء دولة مدنية ناهضة وقوية في اليمن طوال 53 عاماً.
وفي حين يتوهم أعوان تحالف الإثم والعدوان السعودي الخليجي على اليمن، بإمكانية العودة إلى اليمن، ويراهنون على “وثيقة مصالحة” و”لجنة خاصة” أخريين كاللتين تلتا حرب السنوات السبع في إعقاب ” 26 سبتمبر”، فإن مثل هذا يبرز حلماً مخالفاً للفطرة السوية، التي تقضي بأن لا يلدغ الإنسان من الجحر نفسه.

كسر العزلة
* نجح “آل سعود” بأموالهم، في شراء صمت كثير من دول العالم، وساعدها على ذلك تمكنها من فرض طوق عزلة على اليمن وجرائمهم فيها، عبر ترسانة الإعلامية التابعة لها والممولة منها، وعبر استهداف وسائل الإعلام اليمنية قصفاً وحجباً وقرصنة، وتوقيع صفقات أسلحة بمئات الدولارات مع القوى الكبرى، وغير ذلك.
لكن وعلى الرغم من اختلاف ميزان القوى عالمياً وتحالفات وتقاطعات مصالحها، إلا أن العالم يقف أمام مأزق أخلاقي حيال العدوان السعودي الخليجي على اليمن، وجرائمه بحق اليمنيين وحصاره لهم في قوتهم وزادهم ووقود حياتهم، فيما تقف شعارات حرية الشعوب وحقوق الإنسان وسيادة الدول والسلام والأمن الدولي، على المحك.
يبرز تدارك هذا الحرج من جانب المجتمع الدولي، في تنامي الضغوط على الكيان السعودي بوقف عدوانه ورفع حصاره وكف يده عن التدخل في الشأن اليمني، وعرقلة التقاء الأطراف اليمنية على طاولة الحوار والتوصل لحلول توافقية للأزمة السياسية وسد فراغ السلطة الناجم عن استقالة الفارين هادي وبحاح في الثاني والعشرين من يناير الفائت.
ذلك ما أكدته عودة سفير جمهورية روسيا الاتحادية لمزاولة عمله في العاصمة صنعاء، وتصريحاته التي أدلى بها عقب وصوله، وهو ما عكسته مواقف كل من الجزائر والبرازيل، وبدأت تظهره نتائج زيارة وفد من اللجنة الثورية العليا” لكل من روسيا والصين وكوريا الشمالية ومصر والجزائر ودول أميركا اللاتينية، لطرح القضية اليمنية عليها.
في هذه الأثناء، يتواصل صمود اليمنيين بوجه كل محاولات تركيعهم وكسر إرادتهم وسلبهم حقهم في استعادة السيادة الوطنية كاملة واستقلال القرار اليمني والإرادة اليمنية وتبعاً الإدارة، وتتواصل بطولات قوات الجيش اليمني واللجان الشعبية في افشال محاولات العدوان فتح جبهات اقتتال أهلي داخلية، وفي ردع قوات العدو على جبهة الحدود.

إدراك الخلاص
* ثلاثة وخمسون عاماً تؤكد أن ثورة اليمنيين مستمرة، بوجه جناية العمالة والخيانة ورموزها، وهيمنة الوصاية الخارجية وهوانها وعبثية الفساد، وسط تنامي الوعي الشعبي بحقيقة أسباب مشكلات اليمن وأزماته المتلاحقة وضعف الدولة اليمنية وتدهور المستوى المعيشي لليمنيين رغم امتلاك بلادهم ثروات طبيعية كبيرة.
صار اليمنيون يعرفون أعداءهم، ويدركون أن خلاصهم مرهون باستعادة سيادتهم وتحرر إرادتهم واستقلال قرارهم، ما يجعل انكسار تجبر “ال سعود” وبتر يد تدخلهم في اليمن، يوماً خالداً وعيداً وطنياً بحق لليمنيين وكل إنسان حر سوي.. وما “21 سبتمبر” إلا بداية تحرر الإرادة اليمنية ومخاض مولد استعادة السيادة الوطنية تامة.
المراجع:
* “تاريخ اليمن المعاصر 1917-1983م”، ك. جالوربوفسكايا، ومجموعة من المؤلفين السوفيت، ترجمة: محمد علي البحر، مراجعة: د. أبو بكر السقاف ود. محمد أحمد علي، مكتبة مدبولي، مطبعة أطلس القاهرة، 1991م.
*”اليمن..الثورة والحرب حتى عام 1970م”،الرائد العسكري البريطاني:إدجار أوبالانس، ترجمة وتعليق:د.عبد الخالق محمد لاشين، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط:2، 1990م، (الطبعة الأولى 1982م) .
*”اليمن: حرب مجهولة”، دانا أدمز شمدت، بودلي هايد، 1968م.
*”مصر وعبد الناصر”، الجزء:2، 1957م، دان هوفشتادر، نيويورك، 1973م.
*وداعاً لشبه جزيرة العرب، دافد هولدان، فابير أند فابير، 1966م.
*”وثائق تكشف دور إسرائيل في حرب اليمن إبان الستينيات”، قناة الجزيرة، قطر، الثلاثاء 1/5/1429هـ – الموافق 6/5/2008م.
*”بريطانيا والحرب اليمنية الأهلية”، الكاتب البريطاني “كليف جونز”، ج:1، سلسلة ترجمات عن اليمن والجزيرة، المركز العربي للدراسات الإستراتيجية، فرع صنعاء، 2004م.
* لمصر..لا عبد الناصر، محمد حسنين هيكل، مركز الأهرام للترجمة والنشر، مؤسسة الأهرام للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة المصرية الأولى، 1987م.
* “اليمن، الصين.. خمسون عاماً من الصداقة والتعاون”، المستشار بوزارة الخارجية أحمد محمد جابر “الضالع1952م”.، دار نشر مركز عبادي للدراسات والنشر- صنعاء- اليمن، 2007م، بالتعاون مع السفارة الصينية في صنعاء بتقديم أ.د. أبو بكر عبد الله القربي وزير الخارجة والمغتربين.
* العلاقات اليمنية الصينية، ضمن: كتاب اليمن والدول الكبرى، مجيب الرحمن عبيد، مركز البحوث والمعلومات، وكالة الأنباء اليمنية “سبأ” ، صنعاء، الطبعة الأولى، يناير 2003م، الجزء الأول.
*”حرب الثلاث سنوات: 1967-1970م”، الفريق أول محمد فوزي، دار الوحدة، بيروت، الطبعة الأولى، 1983م.
*”حصار السبعين يوماً”، د.عبد الله حسين بركات، الموسوعة اليمنية، مؤسسة العفيف الثقافية، صنعاء، الطبعة الثانية، 2003م، المجلد: 2
*”قناة سلمان لربط الخليج مع البحر العربي”، الوطن نيوز,  www.elwatannews.com/news/details/801462