تعز العز

السعوديّة تَهجُر التقويم الهجري… أهلاً بـ «الكفّار»

الجماعة التي صارت دولة، والتي نصّبت نفسها، دون العالمين، وصيّة على «الحرمين» في الحجاز، ها هي تتخلّى عن التقويم الهجري الذي قدّسته بنفسها سابقاً… لمصلحة التقويم الميلادي. ذات يوم، كان مفتي المملكة قد أفتى بأن الهجري هو «شرف الأمة». الآن يسقط هذا الشرف على أعتاب الدولار

بعد 86 عاماً على إعلان ولادتها، كدولة دينيّة تَحكم بالشريعة الإسلاميّة، قرّرت السعوديّة التخلّي عن التقويم الهجري لمصلحة التقويم الميلادي.

هكذا، ستبدأ مِن الآن، مِن الشهر الجاري، بدفع رواتب العاملين في القطاع العام (الدولة) بما يتوافق مع السَنة الميلاديّة. لم تجرؤ وسائل الإعلام السعوديّة (المحليّة) على ذكر لفظة ميلاديّة في إذاعة الخبر، فعمدت إلى التمويه، إلا أنّ الوكالات في الخارج قالتها، بوضوح، ومِنها “سكاي نيوز” التي عنونت: “السعوديّة تعتمد رسميّاً العمل بالتقويم الميلادي بدلاً من الهجري”. كذلك فعلت “الجزيرة” القطريّة. الحدث ليس عاديّاً. إنّها السعوديّة، الدولة التي لطالما صدّرت نفسها كمرجعيّة أولى لمسلمي العالم. هي الدولة “السلفيّة” كما عبّر مرّة ولي العهد الأسبق، وابن مؤسّس المملكة، نايف بن عبد العزيز.
إذاً، إنّها العولمة (الغربيّة ــ ذات الاتجاه الواحد) التي كسَحَت الكثير مِن “خصوصيّات” الأمم. قلّة مِن هذه الأخيرة، على مستوى العالم، لا تزال تُقاوم، وقد أصابها الإجهاد، وبعضها يَترنّح. الحال هذه مع “الخصوصيّات” المتينة، في بلاد متينة أو تُحاول، فكيف بها مع بلاد أجادت تأصيل التخلّف، جاعلة مِنه ديناً مُتخشّباً، لا يَعرف، نظريّاً أقلّه، حركة الزمان؟ هذا بغض النظر عن أصل الموضوع، ومسألة الصواب والخطأ فيه، فذلك بحث آخر، وبحث يَطول.
في 26 أيلول الماضي، اجتمع مجلس الوزراء السعودي، برئاسة “الملك” سلمان، وجاء في البند الـ24 مِن مقرّراته أنّه: “يكون احتساب الرواتب والأجور والمكافآت والبدلات الشهريّة، وما في حكمها، لجميع العاملين في الدولة، وصرفها بما يتوافق مع السَنة الماليّة للدولة المُحددة بموجب المرسوم الملكي (م/6) الصادر بتاريخ 12/4/1407 هـ”. ما حكاية هذا المرسوم الملكي المذكور، الصادر سابقاً، ولماذا يجري إسقاطه على “روزنامة” اليوم؟ السلطات السعوديّة، مراعاة لـ”ذائقة” المؤسسة الدينيّة الوهابيّة عندها، وكلّ “التيار السلفي” في الداخل والخارج، لا تُريد أن تذكر كلمة “تقويم ميلادي” علناً، فكان لا بدّ مِن تخريجة تمويهيّة، وإليكم كيف جرت.
ينص المرسوم المذكور على أنّ “بِدء السَنة الماليّة للدولة هو في اليوم العاشر مِن برج الجدي مِن السَنة الشمسيّة”. عمليّاً، هذا اليوم يوافق 1 يناير/كانون الثاني مِن السَنة الميلاديّة. فجأة أصبحت السعوديّة تتعامل مع “برج الجدي”! هكذا، يُلعَب على تقويم السَنة الشمسيّة الهجريّة، بدل تقويم السَنة القمريّة الهجريّة، للوصول في النهاية إلى السَنة الميلاديّة. كلّ هذا اللف والدوران مِن السلطات السعوديّة حتى لا تعترف، لفظيّاً، بأنّها تُريد اعتماد التقويم الميلادي، أو بالأحرى… “تقويم الكفّار”. وبالمناسبة، التقويم الشمسي المذكور، الذي تلطّت به السعوديّة الآن شكليّاً، إنّما هو مِن وضع عمر الخيام قبل 900 سَنة تقريباً (الخيّام فارسي، ولطالما رُمي بالزندقة، خاصة مِن جماعة أهل الحديث ــ السلفيين).
إذاً، لفطة “الكفّار” (أصحاب التقويم الميلادي) هنا ليست تهكميّة إطلاقاً. ففي الفتوى رقم 16229 مِن “فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء” (أعضاؤها مِن هيئة كبار العلماء ــ الرسميّة حكوميّاً) يَرِد، ردّاً على سؤال مِن أحد المسلمين، حول إمكانيّة تعامله بالتاريخ الميلادي تجاريّاً، أنّ: “الواجب البقاء على التاريخ الهجري، كما درج عليه المسلمون من عهد الفاروق (عمر) إلى اليوم، وهو شرف للأمة”. صاحب هذه الفتوى هو رئيس اللجنة ومفتي المملكة سابقاً، الشيخ الراحل عبد العزيز بن باز، وقد وقّع عليها المفتي الحالي عبد العزيز آل الشيخ، الذي كان يومها عضواً في اللجنة قبل أن يترأسها لاحقاً. وفي فتوى أخرى، تحمل الرقم 20722 (مِن فتاوى اللجنة الدائمة أيضاً ــ وهي بمثابة دستور ديني في السعوديّة) يَسأل أحدهم: ما حكم التعامل بالتاريخ الميلادي مع الذين لا يَعرفون التاريخ الهجري، كالمسلمين الأعاجم، أو الكفّار مِن زملاء العمل؟ فيأتيه الجواب: “لا يجوز للمسلمين التأريخ بالميلادي؛ لأنه تشبّه بالنصارى، ومِن شعائر دينهم، وعند المسلمين والحمد لله تاريخ يغنيهم عنه، ويربطهم بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو شرف عظيم لهم”. رئيس اللجنة هنا كان لا يزال المفتي ابن باز، أما المفتي الحالي، آل الشيخ، فكان قد ترّقى إلى منصب نائب الرئيس، وقد وقّع على الفتوى.

ما هو موقف هؤلاء اليوم وقد تخلّت السلطات السعوديّة عن التقويم القمري الهجري (المُقرّ مِن قبل الخليفة الثاني)؟ إلى الآن يلتزمون الصمت. صمت القبور. صمت “علماء البلاط” و”وعاظ السلاطين” (رحم الله علي الوردي). وحدهم أعضاء “داعش” وإخوانه اليوم، الهائمون في صحاري وبوادي العراق والشام، تجدهم حتماً يعترضون على هذه “الخيانة”. وحدهم تجدهم يغرّدون رفضاً. هي خيانة لما ربّاهم عليه أولئك المشايخ “الكبار”… منذ أن زجّوا بهم، أدلجة وتمويلاً، خدمة لمذهبيتهم ولخطط أميركا ضد السوفيات في أفغانستان (الأفغان العرب) وما تلاها.
لماذا هذه الخطوة مِن السعوديّة الآن؟ بحسب ما ذكر خبراء اقتصاديّون في الخليج، وكما ورد في تقرير لـ”الجزيرة” القطريّة، فإن هذه الخطوة ستوفّر للمملكة نحو 15 مليار ريال (أي 4 مليارات دولار تقريباً). يحصل هذا نتيجة فارق عدد الأيام بين السَنة الهجريّة والسَنة الميلاديّة؛ فالثانية تزيد على الأولى بـ11 يوماً، وبالتالي، بهذه الطريقة، يُمكن القول إن مردودات هذه الأيّام سوف “تُسرَق” مِن جيوب الموظّفين. ثلث راتب سيتبخّر كل عام مِن العاملين، و15 شهراً من عمرهم التقاعدي لكل 40 سنة من العمل. كثيرون مِن هؤلاء أبدوا شكاوى في تعليقاتهم على المواقع العربيّة التي نشرت الخبر.
لم تكن السعوديّة يوماً في اقتصادها إلا نظاماً ليبراليّاً، لا إسلاميّاً ولا مَن يُسلمون، وهذا لا ينكره أحد مِنهم. هكذا كان دوماً، إلا أنّه كان مغلّفاً بقشرة إسلاميّة. لافتة دينيّة. الآن هذه اللافتة تتغيّر. السعوديّة تتغيّر، الآن، قافزة فوق ما كان حتى الأمس أقدس المُقدّسات و”شرف الأمّة”. لكن الآن؟ “الآن وقد عصيت قبلُ وكنتَ مِن المفسدين”؟
أخيراً، وبعد رحيل المفتي السابق ابن باز، وتعيين عبد العزيز آل الشيخ خلفاً له، وهو في هذا المنصب إلى اليوم، نجد له هذه الفتوى. فردّاً مِنه على سؤال أحدهم حول جواز وجود لوحة في إحدى مؤسسات الرياض تعتمد التقويم الميلادي، يجيب (فتوى حملت رقم 20140) أنّه: “يجب على المُسلم أن يَجتنب طريق المغضوب عليهم والضالين، مِن اليهود والنصارى وغيرهم من الكفّار، فلا يتبعهم في ضلالهم ولا يتشبّه بهم في أفعالهم وألبستهم، ولا يخالطهم في أعيادهم وكنائسهم ومعابدهم، ولا يظهر الفرح والسرور بمناسباتهم، ولا يهنؤهم بها، بل يتبرأ من ذلك كله ويسلم وجهه لله”. صاحب هذه الكلمات هو المفتي الحالي هناك. لقد أصبح هو رئيس لجنة الإفتاء، ومعه، كعضو فيها، الشيخ صالح الفوزان… وما زالا في المنصب.
كان لافتاً أنّهم في الفتوى الأولى ذكروا أنّ التمسّك بالتقويم الهجري هو “شرف للأمة”. السؤال، للمفتي الحالي، ومَن معه: هل تنازلتم الآن عن “شرف الأمّة”؟. بلغة الرياضيّات، المقبولة مِن “شيخ الإسلام” (شيخهم الأكبر) ابن تيميّة، ألا يعني هذا أنّ الأمّة (أمّتهم) أصبحت الآن “بِلا شَرف”. هكذا يُعبَثُ بالسماء… مِن أجل معالف حكّام الأرض.


«القمري» المُنقرِض

ما مِن دولة في العالم الآن تعتمد التقويم الهجري القمري كتقويم أصيل في معاملاتها الحكوميّة. أصبح تقويماً للمناسبات الدينيّة فقط. هذا يُقال اليوم، وجميع الإسلاميين الذين وصلوا إلى الحُكم يعترفون بعدم إمكانيّة التعامل بالهجري، لكن هذا القول، قديماً، كان يُعدّ مِن قبيل الكفر والزندقة. في إيران، مثلاً، بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، كان البعض يتوقّع، إثر إسقاط التقويم الشاهنشاهي، أن يُعمل بالتقويم الهجري القمري في الدوائر الحكوميّة، لكن هذا لم يحصل، فأقرّ التقويم الهجري الشمسي في الدستور (الذي تحمل أشهر سَنته أسماء مِن الإيرانيّة القديمة ــ الزردشتيّة). أفغانستان تعتمد هذا التقويم أيضاً، وكذلك في “كوردستان” كتقويم ثانٍ.

محمد نزال