تعز العز

هل يستأهل آل سعود حُكم الحرمين الشريفين؟

لم ترق دعوة ابن سعود لحكومة إسلامية مشتركة على البقاع المقدسة في الحجاز، لكسب شرعية لحكمه في الحجاز، للحجازيين أنفسهم (الأناضول)

كارثة الحجاج المسلمين الذين قضوا اختناقاً بالمئات منذ أيام في مِنى… وقبلهم بأسبوع واحد، مأساة مئات الحجاج الآخرين الذين سُحِقوا وتمزقوا أشلاء، وهم يطوفون بالبيت الآمن ويسعون بين الصفا والمروة… وقبل ذلك الحرائق الشاملة في خيام الحجيج، والتزاحم المميت في نفق المعيصم الضيق بمكة، وانهيار أحد الفنادق السعودية على رؤوس ضيوف الرحمن، والرصاص الذي صُبّ على عشرات الآلاف من الحجاج العزل الذين كانوا يتظاهرون ضد إسرائيل وأميركا… كل هذا يعيدنا إلى السؤال القديم/ الجديد: هل يستأهل نظام آل سعود حُكم الحرمين الشريفين؟

حينما وردت إلى عبد العزيز آل سعود البشارة من قائد جيشه ابن بجاد تنبئه بأنه قد احتل مكة، في صباح يوم 16 تشرين الأول 1924، أدرك السلطان أنّ كبرى أمانيه قد تحققت أخيراً. فحُكم مكة يمنح لصاحبه قيمة في العالمين العربي والإسلامي ومكانة رفيعة لا تشبهان منزلة من يحكم سواها من البلدان… ولا شك أنّ ابن سعود كان يحسد الهاشميين على الوجاهة التي وفرها حكم البقاع المقدسة لهم.

وهو لطالما نادى بوجوب إبقاء الحرمين الشريفين مشاعاً للمسلمين كافة، فلا يحتكر إدارتهما ملك أو سلطان، فيوظفهما لخدمة مصالحه وسياساته وأغراضه. ولشدّ ما اشتكى ابن سعود من لؤم الملك حسين بن علي، وتعنته، واستغلاله للحج سلاحاً يكيد به خصومه. وذلك عندما منع الشريف الهاشمي على النجديين الحجَّ ست سنوات كاملة، بعد معركة تربة التي انهزم فيها جيشه أمام جيش «الإخوان الوهابيين».

ولقد استقر الرأي عند ابن سعود، بأنّ فرصة «فتح مكة» لا بدّ أن تستثمر جيداً لتعزيز مكانته السياسية بين زعماء العالم الإسلامي. ولقد كان يتأمل بأنّ إظهاره للانفتاح والسماحة في إدارة شؤون الحرمين، قد يبدّدان الصورة القاتمة التي أشاعها أعداؤه عن تعصبه ودمويته وضيق أفقه، وربما يساهمان أيضاً في توطيد حكمه للحجاز، وقد يسهّلان عليه افتكاك ما بقي منه في يد الهاشميين (المدينة، وجدّة). ثمّ إنّ اللين في إدارة الحرمين قد يمنح صاحبه مودة المسلمين كافة، وشرعية من زعمائهم. وهكذا فإنّ ابن سعود أرسل إلى قادة العالم العربي والإسلامي رسائل، كان نصها على النحو الآتي: «أما بعد، فقد استقبلتُ الطريق إلى مكة غير باغ ولا آثم، فليتفضل الأخ العظيم بإرسال من يمثله في مؤتمر مكة حباً بنشر السلام بين أمم الإسلام». ثم جمع عبد العزيز آل سعود من كان لديه في الرياض من السفراء وعلماء الدين والوجهاء، وألقى عليهم خطبة أبان لهم فيها سياسته التي سينتهجها في إدارة مكة. فقال: «إني مسافر إلى مكة لا للتسلط عليها، بل لرفع المظالم والمغارم التي أرهقت كاهل عباد الله. وإني مسافر إلى حرم الله لبسط أحكام الشريعة وتأييدها، فلن يكون بعد اليوم سلطان إلا للشرع، ويجب أن تطأطأ جميع الرؤوس له… وإن مكة للمسلمين كافة فيجب أن يكون أمر إدارتها وتنظيمها طبق رغائب العالم الإسلامي. وإننا سنجتمع بوفود العالم الإسلامي هناك، وسنتبادل معهم الرأي في كل الوسائل التي تجعل بيت الله بعيداً عن الشهوات السياسية، وتحفظ راحة قاصدي حرم الله. وإن الحجاز سيكون مفتوحاً لكل من يريد فعل الخير من الأفراد والجماعات والعمل»(1).

كان عبد العزيز يتصوّر أنّ هذا التعهد الذي يعلنه أمام بعض السفراء والقناصل لديه، كفيل بأن يخفف المخاوف التي قد تنتاب الدول الإسلامية من استيلائه على أهم البقاع قدسية لدى المسلمين. ولكنّ أمرين اثنين أحبطا مساعيه لتهدئة الهواجس والشكوك. وذلك أنّ الوهابيين من جنوده شرعوا مبكراً في هدم ممنهج للقباب والأضرحة والآثار الإسلامية، ما استدعى صيحة فزع في مشارق الأرض ومغاربها. وأما الأمر الثاني الذي نغص على ابن سعود سروره، فكان استطالة الحرب مع الهاشميين، وعدم تسليمهم سريعاً لبقية المدن التي كانت بحوزتهم في الحجاز، كما أمل السعوديون.

وهكذا صار على سلطان نجد أن يستفيض أكثر فأكثر في التعهدات بشأن إدارة الحرمين الشريفين. ففي 10 أيلول 1925، أدلى عبد العزيز آل سعود بتصريحات لبعض الصحف المصرية، قال فيها: “إنني أعطي للعالم الإسلامي عهداً بأن يكون الحجاز ومكة ملكاً مشاعاً للمسلمين” وإنه لن يعلن نفسه مليكاً عليها. وقد وصلت به الحال أحيانا إلى أن يصرّح لمن طالبوه بالصلح مع الهاشميين، وتجنيب البقاع المقدسة ويلات الحروب الأهلية، قائلا: «إن الصلح مستحيل ما دام أبناء الحسين يتوارثون ملك الحجاز، وإن الحجاز للعالم الإسلامي فهو يقرر مصيره» (2). وبنفس الكلمات الحازمة والوعود القاطعة، جاوب عبد العزيز دعوة المفتي أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالقدس لحقن الدماء في بلاد الحرمين، فقال له ابن سعود:» يحزننا أن تكون وساطتكم في وقت متأخر… ولقد أجبرنا أن نتخذ التدابير الفعالة لتستقر الحالة في بلاد الحرمين، وإنا نرغب في وجود إدارة في الحجاز تكفل حقوق جميع المسلمين بوجه المساواة، وتضمن راحة الحجاج، وتزيل عنهم المظالم كلها وتجعل الحكم خلافة يختارها أهل الحجاز لا مُلكاً» (3). وفي 16 تشرين الثاني 1924، أرسل عبد العزيز رسالة إلى عدوه الهاشمي يقول له فيها: «إذا كنتم تحبون السلام، وحقن الدماء، أخلوا الحجاز وانتظروا حكم العالم الإسلامي. فان اختاركم أو اختار غيركم، فنحن نقبل حكمه بكل ارتياح». وكتب مستشار ابن سعود حافظ وهبة في جريدة «البلاغ» المصرية: «إنّ سلطان نجد لا يسعى وراء الجاه والحطام الفاني. وإنما يريد أن يطهر أم القرى من الرجس والخبائث التي انتشرت فيها منذ أن انصرف أشرافها عن شؤون الدين وأوغلوا في التعلق بالدنيا والتفاني في زخرفها وزينتها فلم يرعوا حرمة المكان ولم يبالوا سعدت البلاد أم شقيت! ارتفعت كلمة الدين أم انحطت! ما دام نصيبهم من الحطام الفاني مضموناً، يستولون عليه لسد شهواتهم، وقد علمتنا الحوادث أن السلطان ابن سعود ما وعد إلا وفى، ولا صمم على شيء إلا نفذه بقدر ما استطاع. فإذا قال: انّه ذاهب إلى أم القرى بالمنهج الذي ذكرناه فإننا نثق بأقواله ونؤمن بإخلاصه وصدق طويته».

وحينما وصل عبد العزيز إلى مكة، في تشرين الثاني 1924، لأخذ البيعة لنفسه من الحجازيين، خطب في الناس، في المسجد الحرام قائلاً:» أنا عبد العزيز بن سعود… والله وبالله وتالله ورب هذا البيت والحرم ــ والمقدر كائن، وهذا هو المقسوم ــ كان من أحب الأمور إليّ أن يقيم حسين شرع الله في هذا البيت، فأفد عليه مع الوافدين، ولكن هكذا شاءت إرادة الله، وإن كان الحسين قد أمّره الأتراك فنحن لم تؤمّرنا غير سيوفنا. وإن كان الإنكليز قد أهملوه فلأنهم عرفوا أن ما فيه خير!» (4).

اعتبر عبد العزيز أن فرصة «فتح مكة» استثمار جيد لتعزيز مكانته السياسية

على أنّ تصريحات ابن سعود السياسية، ودعوته لحكومة إسلامية مشتركة على البقاع المقدسة في الحجاز، وكان يحاول بها استمالة الدول الإسلامية، لكسب شرعية لحكمه في الحجاز، لم ترق للحجازيين أنفسهم، فاصدر أعيانهم يوم الخميس 19 جمادى الآخرة 1344 هـ بياناً ( كان بالاتفاق مع ابن سعود طبعاً)، وجاء فيه: «إننا نبايع عظمة السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود على أن يكون ملكاً على الحجاز على كتاب الله وسنّة رسوله وما عليه الصحابة والسلف والأئمة الأربعة. وأن يكون الحجاز للحجازيين، وأن أهله هم الذين يقومون بإدارة شؤونه، وأن تكون مكة المكرمة عاصمة الحجاز».

وفعلاً فقد تمت البيعة لعبد العزيز آل سعود، ملكاً على الحجاز، في الحرم المكّي، يوم الجمعة 23 جمادى الآخرة 1344 هـ (8 يناير 1926). وكان نكث عبد العزيز بكافة عهوده التي قطعها على نفسه، مدعاة إلى سخط عارم في أنحاء العالم الإسلامي. فالرجل الذي صرّح دائماً بأنه ما كان يهدف إلا لمحاربة الملكية الباطلة في القرآن، وأنه سيدعو كافة المسلمين لعقد مؤتمر في مكة ينتخب فيه ممثلو المسلمين حكومة للحجاز، ظهر كذبه، وزوره، زيف دعاويه!

ولقد حاول عبد العزيز أن يعالج هذه المعضلة فدعا في حزيران 1926 إلى عقد المؤتمر الإسلامي الذي وعد به سابقاً لتفرير شؤون إدارة الحرمين الشريفين. وفعلاً، فقد اجتمعت وفود من دول إسلامية عديدة في مكة المكرمة في ذلك المؤتمر. ولكنّ كلمات بعض رؤساء الوفود (وخصوصا كلمة شيخ الإسلام في الهند شوكت علي، والشيخ الظواهري الإمام الأكبر للجامع الأزهر بمصر) أدانت ما قام به السعوديون من فرض حكمهم على البقاع المقدسة بالجبر لا بالاختيار، وفندت جميع مزاعم السعوديين، وطالبت بحكومة إسلامية تشرف على إدارة البقاع المقدسة. ولم يرض هذا الأمر ابن سعود ، فانفض اجتماع وفود الدول الإسلامية الباحث في شرعية حكم آل سعود للحرمين الشريفين، من دون نتيجة وبدون اتفاق.

الهوامش

(1) أحمد عبد الغفور العطار ــ كتاب «صقر الجزيرة» ص 405

(2) كان رفض ابن سعود للصلح جواباً على عرض للسلام قدّمه له ملك الحجاز علي بن الحسين الذي خلف والده المتنحي، في تشرين الأول 1924.

(3) من الطريف أنّ عبد العزيز آل سعود، قبل أن يتقلد مُلك السعودية، كان يُنكر على الملك حسين بن علي تلقيبه لنفسه بـ«ملك المسلمين». وكان يقول إنّ اتخاذه لهذا اللقب هو من أمارات «كفره». فكيف يطلق على نفسه لقب «المَلِك». والمَلِك هو الله، وليس للمسلمين مَلِك غير الله!

(4) أحمد عبد الغفور العطار ــ كتاب «صقر الجزيرة» ص 464

جعفر البكلي

#تعز
#جرائم_داعش_في_تعز