تعز العز

ورقة من التاريخ(بهرام جوبين).

قائد عسكري محنك تمكّن من هزيمة دولة قوية معادية، وإجبارها على دفع الجزية لبلده.. لا بد أن يتمتع بشهرة واسعة في بلده، وبأهمية عالية، لدى حاكمه، ومجدا رفيعا، في ذاكرة شعبه التاريخية.
وهذا ما حاز عليه “بهرام جوبين” في التاريخ الكلاسيكي، بعد أن هزم الأتراك، في معركة تاريخية فاصلة حققت الكثير من النفوذ والمجد للامبراطورية الفارسية.
بيد أن أهمية “بهرام جوبين” ، لم تنبع فقط من سجله العسكري المشرف، بل أيضا، وبمفارقة ملفتة، من ما تسبب به لاحقا لبلده من أهوال، إذ كان أكبر إسفين تعرضت له تلك الامبراطورية، على الإطلاق.
كان لجوبين، النبيل الفارسي المتحدر من أسرة إقطاعية عريقة، بجانب حنكته العسكرية، طموح مغامر لا يخلو من شيء من النزق، ولم يلبث الغرور أن أوقعه في إخفاقات عسكرية خارجية متتالية، دفعه التهرب من مواجهتها إلى توجيه سلاحه باتجاه الداخل، في وجه الملك الفارسي نفسه، هرمز الرابع (579 -590م).
في نشوة غير محسوبة النتائج،
توجه هذا القائد العسكري إلى القصر الملكي، وهناك قام بالقبض على الملك، وسمل عينيه وقام بتصفيته، ومن ثمّ أعلن نفسه ملكا على فارس، وتلقب ببهرام السادس.
هكذا بضربة واحدة أطاح جوبين بالحق المقدس للسلالة الساسانية الحاكمة، ورغم أنه واجه معارضة واسعة، فمن المبالغة القول إن الشعب الفارسي وقف كله ضده، ولم يواله أحد، من كبار الفرس، ولا من مكونات الامبراطورية الواسعة، باستثناء اليهود الذين قيل إنهم زعموا بأنه حاميهم، وأيدوه، وأمدوه بالمال.
أياً كان الأمر، ففي هذه الأثناء فر وريث العرش الساساني كسرى أو خُسرو الثاني(590 -628م)، فر هو وعدد من أقربائه ومناصريه إلى سوريا، التي كانت حينها تحت سلطة بيزنطا، ومن هناك تمكن من إقناع الإمبراطور البيزنطي موريس (539 – 602م) بمساعدته لاستعادة عرش أبيه وجده.
ورغم العداء التقليدي المستفحل بين الدولتين، فقد استقبل الامبراطور البيزنطي طلب كسرى بحفاوة، وبادر بمساعدته، ونجح التدخل العسكري البيزنطي، بمؤازة المعارضة الفارسية الواسعة، بالانتصار على قوات جوبين، وإعادة كسرى إلى عرش المدائن.
لم ينس كسرى الثاني هذا الجميل لموريس، ومع أنه في المقابل تنازل له عن أرمينيا، ومنطقة ما بين النهرين الشرقية، فقد ظل الرجلان صديقين، وتعمدت هذه الصداقة، بإحلال السلام بين البلدين، وزواج كسرى من ماريا ابنة موريس.
عندما قُتل موريس سنة ٦٠٢ م بمؤامرة من رجال البلاط البيزنطي، قرر خسرو الانتقام لصديقه وصهره، وتحت دافع رد الجميل، غزا سوريا وآسيا الصغرى، وفي عام ٦٠٨م كانت قواته تدك أبواب العاصمة البيزنطية، القسطنطينية.
كان العرب حينها يراقبون باهتمام بالغ، وجدل حار، ما يحدث بين القوى العظمى، شمال جزيرتهم المنسية الموعودة بالظهور، وقد تم تخليد هذه المناسبة في سورة الروم:(ألم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْض،ِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُون، فِي بِضْعِ سِنِينَ..).
كانت الإمبراطورية البيزنطية على وشك الانهيار، ربما إلى الأبد، تحت وطأة الضربات الفارسية الماحقة، بجانب النزاعات الداخلية على العرش، لكنها سرعان ما لملمت أشلاءها لتضيف إلى عمرها قرونا أخرى.
أما فارس فكانت تتجه بخطوات مرتبكة إلى الانتحار. قُتل جوبين بعد عام من مجازفته الطموحة تلك، لكن الصدع الكبير الذي كان قد تسبب به للنظام الفارسي، ظل يتسع باطراد.. لم تدم الامبراطورية الفارسية، بعده طويلا، خسرت الكثير من الحروب، وسارعت النزاعات الداخلية على العرش، في تقويضها، لتسقط إلى الأبد.
عندما وصلت سنابك الفتح الإسلامي إلى فارس، اجتاحتها بيسر كما لو كانت تحصد هشيما، لقد سقطت فارس قبل وصول هذا الفتح الأشبه برصاصة رحمة لتلك المملكة المحتضرة.
من حينه، تغيرت أشياء كثيرة في العالم، أصبح كل شيء من التاريخ، لكن وفيما انقرضت الأسرة الساسانية العريقة، ظل جوبين بطلا قومياً حياً في الذاكرة الفارسية، كما في الشاهنامة، فقد تحدث عنه الفردوسي بكثير من الإعجاب، ربما نزولا عند رغبة “محمود بن سبكتكين” (971: 1030م) الفاتح الغزنوي الشهير الذي كلف الفردوسي بكتابة هذه الملحمة العظيمة، وكان يزعم أنه يتحدر من نسل البطل الفارسي جوبين نفسه.
هناك ينسب “محمود الغزنوي” إلى أصول تركية، وهذا يعني، لو صح، أن جوبين غزا ببطولته حتى ذاكرة خصومه، وسواء كان محمود فارسيا أو تركيا، فقد اعتبر جوبين مثله الأعلى، وأحبه بشدة، وأعجب به بعمق، ومد على ذكراه الملهمة، بعد قرون، حدود دولة واسعة تمتد من نهر جيحون حتى نهر السند، نزولا حتى المحيط الهندي.
د. صادق القاضي
 
 #تعز_كلنا_الجيش_واللجان_الشعبية
#جرائم_داعش_في_تعز