تعز العز

دكاكين الحراك الجنوبي 1-2

سنتوقف في هذا المقال مع ظاهرة عجيبة وأنموذج فريد، ربما لم يشهد التاريخ السياسي اليمني الحديث نظيراً له، ومن باب أولى حركات التحرر التي عرفها التاريخ.
وهو أنموذج لحركة تصف نفسها بأنها (حركة تحرير واستقلال) سنستعرض بعضاً من انفراداتها وعجائبها.
منذ ما يقارب 10 سنوات برز في “المحافظات الجنوبية” تنظيم أطلق على نفسه اسم “المجلس الأعلى للحراك السلمي”، بدأ في أول انطلاقته كمكوّن حقوقي، ثم ما لبث أن تحوّل إلى مكوّن سياسي يدعو لانفصال جنوب اليمن عن شماله والعودة إلى ما قبل 22 مايو 90. وهو ما أطلق عليه “استعادة دولة الجنوب”، داعياً إلى ما سماه “فك الارتباط”. واصفاً اليمن الشمالي بأنه مغتصب للجنوب، ومعتبراً أن كل اليمنيين المنتمين للمحافظات الشمالية، أيّاً كانت صفتهم ساسة، عسكريين، بل حتى العامة من الشعب؛ جميعهم “احتلال”. لذا تعامل معهم وُفق هذا الاعتبار.
إن كل مراقب ومتابع لهذا “الحراك” يتراءى له جليّاً من دون شائبة؛ استراتيجيته الفوضوية ومساره الغوغائي الذي اتخذه منذ تأسيسه، فكأنّه وُلِدَ مريضاً بطفرة جينية، جعلته مجبولاً على الانشطار والتكاثر والتحوّر والاندماج والانقسام، ومحكوماً بقانون النشوء دون الارتقاء. إذ يعاني حالة من الاختلاجات والاضطرابات الشديدة والحادة خلال “مسيرته العشرية”. فلم يقم علاقة إطلاقاً مع التوحّد والاستقرار والتماسك والانضباط، في كل مناحيه ومراحله. وكأن “لعنة الوحدة اليمنية” التي رفضها أصابته بالفعل في نواته، وجيناته. وفعلت فعلتها في أيديولوجيته السياسية، وبرامجه “الثورية” وأجندتها، مروراً بهيكلته الإدارية، ووصولاً إلى تشكيلته التنظيمية. بل لم تستثنِ حتى مسمياته.
كان “الانفصال” شعارهم، وأول وآخر مطالبهم، وله يتظاهرون، وبه يعتصمون، إلى أن قرّر فجأة أحد تياراته رفض صيغة هذا الشعار، وذلك أن “فلاسفته” توصّلوا إلى “نتيجة خطيرة” جادت بها قريحتهم الفذّة، مفادها: (أن كلمة “الانفصال” إنما تدل على انفصال بعض من كلٍّ، وفرع من أصلٍ. وبما أنهم قبل الوحدة كانوا دولة مستقلة ذات سيادة، ولم يكونوا جزءاً من “الجمهورية العربية اليمنية”. وعليه فإنهم يرون -حسب فهمهم هذا- أن مدلول مصطلح “الانفصال” يعني الاعتراف بتبعيتهم للشمال و”يمننتهم” -على حد وصفهم- ولا يعبّر بدقة عن مطلبهم لاستعادة دولتهم. وتجنّباً لأي مأخذ أو ثغرة “قانونية” فإنهم يرون وجوب استبداله بعبارة “فك الارتباط”).
يا إلهي؛ إنهم لا يمزحون.. فوعيهم الرّاقي “بغوغائيتهم”، دفع بهم للحيطة وانتقاء المصطلحات، في سبيل عودة دولتهم التي كانت قبل مايو 90.
إنهم مثيرون للشفقة بهذه السطحية، إذ إن الدولة هذه ذاتها التي يريدون استعادتها، وهي جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، تقرّ “باليمننة” التي يتنكّرون لها. وينصّ دستورها على أنها جزء من التراب اليمني، ويؤكد على قضية الوحدة اليمنية، ويجعل النضال من أجل تحقيق أهداف استراتيجية الثورة اليمنية -وعلى رأسها الوحدة اليمنية- بُعداً دستورياً.
بل حتى النظامان الداخليان للجبهة القومية والحزب الاشتراكي ينصّان على ذلك.
فهم إذن يريدون الخروج من الوحدة لاسترجاع الدولة التي يقضي دستورها بأن يعودوا للوحدة أصلاً، ويلزمهم بها.
أمّا بخصوص مصطلح “فك الارتباط” الذي استلهموه من إنهاء (الوحدة المصرية السورية). فلا يستقيم ذلك لاختلاف الحالتين والوضع الدستوري والسياسي لهما.
إضافة إلى أن المرتبط معه وهو عبدالناصر كان موجوداً آنذاك. وتقبّل الطرفان فكّ ارتباطهما. بينما لم تعد اليوم الأحزاب والقيادة الموقعة على الوحدة قائمة. علاوة على ذلك الاستفتاء الشعبي الذي أجري على الوحدة في مايو 91، إضافة إلى الفشل الذريع الذي أظهرته قيادة الحزب الاشتراكي وانعدام حنكتها في تعاطيها السياسي لملف تصحيح مسار الوحدة في 93، ومن ثم الإخفاق الكبير الذي أبدته في إدارتها للّعبة السياسية لعملية انسحابه من الوحدة، وزاد عليه إخفاقه العسكري، في 94، والذي نتج عنه لاحقاً واقع سياسي ودستوري معزّز للوحدة.
لم يتوقف هذا الاضطراب “الحراكي” -المعهود- عند مسميات “الانفصال” أو “استعادة الدولة” أو “فك الارتباط”، فما تمضي فترة إلاّ ويعلن فصيل من فصائله، أو بعبارة أفصح “دكّان من دكاكينه”، عن مشروع يختلف عن مشروع الفصيل الآخر؛ (ربما إن هذا الاختلاف والتنوّع في المشاريع الحراكية ناتج عن التنافس القاتل القائم بينهم. وأيضاً هي طريقة يبحث من خلالها كل مكوّن عن سوق ينفق فيه بضاعته، ويشبع به رغبات زبائنه). فكانت مشاريع “الفدرلة” بصيغه متعددة، و”الأقلمة” بأشكال متنوعة. إضافة إلى الدعوة لاستعادة “دولة الجنوب العربي” من أجل الاستقلال عن اليمن. وهو ذات المشروع الذي أنشأه البريطانيون تحت مظلة احتلالهم، أي أنهم يقرّون بمشروع هو صنعية الاحتلال، ويرون فيه مشروعاً وطنياً يحقق الاستقلال.. تخبّط وتعارض سافر.

 حسن العيدروس 

 

#الصرخة_في_وجه_المستكبرين

  

أشترك على قناة أخبار تعز للتلغرام وكن أول من يعلم الخبر فور حدوثه انقر هنا