تعز العز

”وصية” الملك عبدالعزيز، وبندقيته!

في 26 مارس 2015، تعرضت اليمن لأكبر عدوان جوي في تأريخها ، وفي مارس نفسه، ولكن قبل 87 سنة، كان اليمنيون لأول مرة، يشاهدون بذهول أسراباً من سلاح الجو البريطاني وهي تقصفهم من السماء.
26 مارس 1928، كانت “قعطبة” و “دمت” و “الضالع” و “البيضاء”، أهدافا للغارات الجوية لطيران العدوان البريطاني.
كان العدو يقلع من “عدن” المحتلة: طائرات تقذف القنابل والقذائف ، بلا رحمة، وطائرات ترمي بمنشورات تحرض “الشوافع” على قتال “الزيود”!
وكان اليمني هو اليمني ، يبحث عن وسيلة لإعطاب الطائرة.

على الطريق السريع من “مكة”، إلى “الرياض”، وعلى بُعد60 كم، تعترض وجوه المسافرين “بندقية”، ناهضة تكاد تلامس خشومهم.
“البارودة”، أو “البندقية”، طولها ( 200 متر). وهي عبارة عن مجسم ضخم، وُضعتْ بكيفية مائلة، على نحو قتالي متأهب، يتناسب مع تصويب دقيق باتجاه “اليمن” كـ”نشان”.
هذا التجسيد الرمزي، لـ”بندقية”، من نوع “مُقمع”، التي كانت على كتف عبدالعزيز آل سعود،عشية دخوله “الرياض”، سنة 1902، تختزل في جوهرها، دلالات ومعاني كثيرة، لا تزال مستقرة في الجانب العميق من وعي العائلة السعودية المالكة: أبناء الملك المؤسس وأحفاده.
أحد أخوة الملك فهد، أخبر الصحفي الكبير الراحل محمد حسنين هيكل، بأن والدهم، أي الملك عبدالعزيز أوصى أبناءه ، وهو على فراش الموت، قائلا:” احذروا من يمن موحد، فهذا خطر عليكم وعلى المملكة”.
وأضاف، الى ذلك، قول الملك المؤسس لأبنائه الأمراء المتحلقين حوله:” عليكم ان تتذكروا دوما أن ضمان رخائكم مرهون ببؤس اليمن”.
هل هذه البندقية تأكيد، على الالتزام الحرفي بنص “وصية” الملك الراحل؟! وهل هذا النهج الثابت في السياسة العدائية، تجاه اليمن، أو بتفسير أدق: الخائفة منه ، هي التجسيد العملي لفحوى ومضمون تلك الوصية من الملك لأولاده الملوك من بعده؟!
روى محمد حسنين هيكل، هذه الشهادة سنة 1994 في سياق زمني مناسب، ضمن مقال كتبه حينها، عن حرب صيف 94، لصحيفة “يابانية” شهيرة.
كانت الحرب ضارية بين مشروعي: الوحدة والانفصال، وقد أعلن البيت الأبيض، حينئذ إن البحرية الأمريكية، اعترضت سفينتين سعوديتين محملتين بالأسلحة أرسلتها “الرياض”، دعما للانفصاليين في “عدن”.
وحذرت الإدارة الأمريكية، من تداعيات مثل هذه الإعمال لأن الحرب في اليمن ستكون ارتداداتها، وخيمة على استقرار دول المنطقة برمتها ؛ منطقة الجزيرة العربية.
• العدوان على اليمن..وتكريس النهج السعودي.
قبيل “عاصفة الحزم”، جاء في كلمة تنصيب الملك الجديد، سلمان بن عبدالعزيز ، هذه الجملة القطعية الحاسمة:” إن المملكة لن تحيد عن النهج القويم الذي رسمه لها الملك عبدالعزيز”. وفي بلد لا يحكمه، نهج دستوري، ولا تقاليد ملكية حديثة، فما هو “النهج القويم” الذي يقصده ملك العربية السعودية، الحالي؟!
يراجع الملوك المتعاقبون، ابناء الملك عبدالعزيز، وصية والدهم دائما، ويحتكمون إليها، ليس فقط كالتزام يضبط الضمير الأخلاقي للعائلة المالكة، ويستأنسون بها، ولكن الأهم من ذلك؛ كاستراتيجية ثابتة يحكمون بها، وكـ”يقين”. وتلك، هي جذر المشكلة، وأساس التأريخ المأساوي الدائم للعلاقات اليمنية السعودية، أي؛ إنها مأساة قرن كامل من علاقة انعدام الثقة بين هذين البلدين المتجاورين.
منذ تأسيسها، الدولة السعودية الثالثة، على يد الملك عبدالعزيز آل سعود، وجغرافية هذا الكيان الجديد، الناهض من وسط صحراء الجزيرة العربية، تتسع. وعلى طول الخط الزمني للقرن العشرين، عصفت باليمن عشرات الحروب والنزاعات، وظلت بائسة طوال العهود الملكية، ولم تستقر اليمن في العهد الجمهوري طويلا، رغم الإنجاز النوعي والتحول،على صعيد الثقافة السياسية ونظم الإدارة والحكم، والانقلاب الجذري الذي ألغى نظرية “الحق الإلهي” لصالح الأمة والشعب.
لقد حارب الملوك السعوديون اليمن وهي ملكية، ثم حاربوها جمهورية، وتصدوا لها جنوبية وشمالية، وموحدة!
لم تكن العربية السعودية، على جانب بعيد من هذه الحروب والاعاقات في طريق أجيال حركة التحرر الوطنية، سواء في الشمال أو الجنوب، فقد وقفت السعودية دائما على الضد في وجه أي تحول يجري في اليمن.
البداية، من موقفها الرافض لمشروع الدستور، الذي أعدته الحركة القضائية سنة 1948 بقيادة ال الوزير. ثم من رفضها القاطع لفكرة الثورة والتحول إلى النظام الجمهوري، و قبل الثورة بسنتين، كانت “الرياض” قد أعلنت رفضها القاطع لفكرة برنامج الإصلاح الاقتصادي والسياسي، لولي العهد محمد البدر، كخطوة متحولة. وبعد ثورة سبتمبر، تحولت السعودية عن موقفها السابق المعترض على سياسة البدر وإمامته، وأشهرت سيفها في وجه ثوار 26/9، وبدأت حرب الـ ثمان سنوات على “الجمهورية العربية اليمنية”،وهي في مهدها، لكن عجلة التأريخ مضت وباءت المملكة بالهزيمة.
ثم انها قررت دعم “شيوخ” القبايل واعتماد مرتبات وامتيازات شهرية لهم، ليكونوا أصحاب السلطة الفعلية داخل سلطات ومؤسسات ووظائف الدولة اليمنية. ومعروف إعاقة المملكة للنهج التأسيسي الذي حاولت مرحلة الرئيس القاضي عبدالرحمن الارياني إرساءه، فتضررت “الحركة الوطنية” ، وتعرض رجالها ورموزها للسجن والملاحقات والتشويه.
• تصفية الحمدي وسالمين
ورغم أن المقدم إبراهيم الحمدي، الذي تسلم الحكم ضمن مجلس قيادة، متفاهم مع المملكة، إلا ان سنوات الحمدي الثلاث، التي عززت الروح الوطنية لدى عموم المواطنين، مع سياسة خارجية منفتحة وغير منحازة، أزعجت الرياض، فقررت التخلص منه في “صنعاء” ، بالموازاة الزمنية نفسها: التخلص من الرئيس “سالمين” في “عدن”. وبدأت مرحلة جديدة، ملتهبة بين اليمنيين جنوبا وشمالا كانت السعودية، فاعلا أساسيا في إضرام نار الحرب، وتأجيج الاقتتال الداخلي بين الشطرين، من خلال دعمها لما عرف بـ”الجبهة الإسلامية”، في مواجهة ما عرف في حينها بـ”الجبهة الوطنية”، أو ما بات يعرف بأحداث أو حرب “المناطق الوسطى”.
وبصرف النظر عن توزع اليمن بين معسكري الحرب الباردة، الا إن لغة التحريض على العنف قد استنهضت هويات مناطقية ومذهبية ، على الضد من وعي الهوية الوطنية الجامعة التي كانت، رغم ذلك، توحد الوجدان الرسمي والشعبي عند طرفي القتال. توقفت الحرب، لكن العبث بـ”الهوية”، من خلال المعاهد العلمية (الدينية) في اليمن والقوى السلفية المتشددة، المدعومين من قبل هيئات رسمية وغير رسمية داخل السعودية، استمر في نهجه التجريفي إلى مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
والملاحظ أن اليمن التي افترقت بنادقها بفعل الانقسام بين الشرق والغرب، تركت السلاح في 22 مايو 1990، وذهبت إلى الوحدة. وكان ذلك مزعجا “للرياض” ، استنادا إلى منطق الوصية:” احذروا يمنا موحدا”. وقد عبرت المملكة، عن رفضها لهذا التحول، من خلال سياساتها أولا، وأيضا من خلال رفض القوى الرجعية، لفكرة الوحدة من الأساس، عشية إعلانها التاريخي، حيث رفضت تلك القوى بشكل قاطع بعض مواد الدستور، وتحفظت على فكرة الديمقراطية باعتبارها مستوردة، ويجب ان تستبدل بـ”الشورى”. كما انها اعترضت على المشاركة السياسية للمرأة، وعلت أصوات التكفير، والتحريض ضد قيادات الحزب الاشتراكي، وشخصيات ورموز ثقافية وسياسية.
“الرياض” لم تغضب فقط من الموقف الرسمي لدولة الوحدة تجاه احتلال العراق للكويت، وإنما عاقبت الشعب اليمني، واتخذت قرارات متهورة و جائرة تجاه كل المغتربين اليمنيين، معتمدة “نظام الكفيل”، وتعرض الكثير منهم للطرد، وكان لخروج مئات الالاف من المغتربين اليمنيين في المملكة، آثاره الجسيمة على الاقتصاد الوطني.
وانفجرت حرب صيف 1994، لتجد المملكة نفسها في خندق الانفصال، وضد “يمنا موحدا”. والملاحظ ، وعلى طول مراحل التحولات الكبيرة التي شهدتها اليمن، كانت “الرياض” تعترض وتواجه هذه التحولات دائما، غير أن الثابت من جهة اليمن، ان هذه السياسة الملتزمة بنص الوصية، كانت تنهزم أمام تصميم اليمنيين وارادتهم، بل أمام قانون حركة التأريخ.
لم تنزعج الرياض فقط من الوحدة اليمنية كقوة. ولكن “الوحدة اليمنية” جلبت معها، الى دنيا اليمنيين قيما ثقافية وسياسية جديدة. وتلك القيم في مجملها تعد إحدى أسرار قوة المجتمعات المتحولة : التعددية السياسية، وحرية التعبير، والمشاركة السياسية لجميع المواطنين، وحق الانتخاب والترشح لكل مواطن ومواطنة، وبث نقاشات مجلس النواب على شاشة القنوات التلفزيونية الرسمية للدولة، الشفافية ومكافحة الفساد، وغيرها من الامتيازات الثقافية للمجتمع اليمني، التي تخشى “المملكة” الانتقال إليها كـ”عدوى”.
• المأزق السعودي ومؤشرات الانهيار
النخبة السعودية الحاكمة في الرياض، لم تفكر بالتحول، ضمن سياق معاصر وقيم عالمية حديثة. فهي مثلا؛ لم تجرب مناقشة أية مشاريع إصلاحات سياسية تنتقل بنظامها السياسي الى ملكية دستورية، وتشجع مجتمعها على الانفتاح التدريجي على العصر. بل ظلت سلطة رجال الدين تحكم، وتمارس هيئة الامر بـ”المعروف والنهي عن المنكر” دور الشرطة والرقابة الأخلاقية على خصوصيات المواطنين. كما ان المساجد صارت عبارة عن مدارس لنشر التطرف. أما نظام الحكم، فقد ظل ملتزما بالاتفاق القديم بين أمير الدرعية الأول محمد بن سعود، والشيخ محمد ابن عبدالوهاب سنة 1745، للأول السلطة السياسية وللثاني الدينية. وهكذا جاء عصر الثورات وعصر الإمبراطوريات وعصر النفط وجاءت العولمة، والعائلة السعودية الحاكمة حبيسة مفاهيم وأفكار رجعية قديمة.
تبدو المملكة اليوم أمام وضع مفاجئ ومتغيرات جديدة لا مفر منها؛ إنها حقائق العولمة واستحقاقات هذا العصر وقيمه الثقافية.
تفصل اليمن والمملكة، بالنظر الى هذه الاستحقاقات السياسية والثقافية ، فجوة كبيرة، فاليمن الفقيرة في مشاكلها وحروبها وصخبها، تعي انها تعبر “مرحلة التحول الحرج” ، والمملكة الغنية لم تبدأ بعد. وتلك إحدى أكثر المشكلات والأزمات الحقيقية التي تهدد تماسك بنية المجتمع السعودي، وتهزه من الأعماق.
ولئن كانت العربية السعودية، تمتلك ثروة طائلة وعلاقات سياسية مصيرية مع دول وقوى رأسمالية كبرى، فإن مفاهيم القوة والثروة قد تبدلت. فلم تعد طائرات الـf16 ، قوة فتاكة في عالم يتغير بسرعة. كما ان اليمن الآن، باحزابها ومجتعها المدني ومكتسباتها السياسية والدستورية، وانفتاحها العالمي، ليست فقيرة، بالنسبة للحسابات القديمة والمفاهيم الكلاسيكية، لمعادلة: السلاح والمال.
تواصل الرياض من خلال شراء الأسلحة، شراء المواقف، بينما تؤكد اليمن على عناصر القوة الجديدة، التي اكتسبتها اليمن، بفعل تحولاتها المتراكمة، ولا تزال هذه القيم تتراكم وتتعزز، رغم الحرب والحرائق التي تشهدها عديد من دول الشرق الأوسط.
تبدو صنعاء متفوقة على الرياض بهذه النقاط ، التي تفتقر إليها اكبر دولة مصدرة للطاقة في العالم: وعي الناس بالقيم الجديدة؛ الصحافة الحرة، الحريات السياسية والمدنية، حقوق المرأة ومشاركتها السياسية، نقد السياسات الحكومية، وحرية الاعتصامات والفعاليات المدنية، المكتسبات القانونية للمواطنين على صعيد الحقوق الطبيعية: حق الترشح لرئاسة الدولة وحق انتقاد المسؤولين الحكوميين بما فيهم رئيس الجمهورية، حق تشكيل الأحزاب السياسية والاتحادات والمنظمات والجمعيات المدنية، الحقوق السياسية للمرأة والطفل.. وغيرها من عناصر وشروط تحول المجتمعات.
امام حقائق القوة الجديدة، فإن الدولة السعودية، التي لاتزال تحتكم الى “هيئة البيعة”، في اختيار ملوكها، تبدو خائفة ، بالفعل. خائفة من هذا الجار الذي يضج بالحيوية والحركة، خلف تلالها الجنوبية.
“اليمن”، هي القلب الديمغرافي، لسكان شبه الجزيرة العربية، وفقا لـ”روبرت كابلان”. والخوف الذي تضمنته، وصية الملك الراحل، صار مبدأ أصيلا من مبادئ السياسة الخارجية السعودية، تجاه جارها الجنوبي. ولم تعد اليمن معنية بارتدادات هذه “الهواجس الخائفة”، بل العالم كله بات معنيا بهذا البلد الذي لا يريد أن يتحول: العربية السعودية.
بالنسبة لكيان سياسي حديث التبلور، وجد ذاته سريعا، مستلقيا بجوار “كعبة”، وممتدا فوق مساحات صحراوية مترامية الاطراف، وسهوب وثروة نفطية ضخمة، فإن فرضية هذا “الخوف”، تبدو منطقية ، ليس فقط في زمنها ، وبحسابات المصالح والقوى الرأسمالية الكبرى، ولكن أيضا من ناحية سيكولوجيا التأريخ: عقدة النقص الحضارية.
فاليمن، كهوية سياسية وكمكان وكأمة وتأريخ، هي أرض سبأ ومعين وذو ريدان ، وحمير، وهي أرض العربية السعيدة، في كتب الاغريق، وهي المدن القديمة والوديان، وتلك الجبال الشاهقة التي لا تزال تحتفظ بالأصول الأولى لبدايات العرب، وجذورهم العتيقة. وهم أيضا، أي الشعب اليمني، أهل بأس وحرب، فالاتراك الذين طوعوا أوروبا وعبروا هضبة الهند وصولا الى الصين، كانوا يلقون بأنفسهم من شواهق الحيود اليمنية، هربا من بنادق ومعاول المواطنين.
المؤكد اليوم ان اليمن الفقير، لا يمكنه التفريط في مكتسباته السياسية والثقافية وفي ثوابته الوطنية: وحدته، ونظامه الجمهوري، الديمقراطية والتعددية السياسية وجملة الحقوق السياسية المكتسبة وحقوق المواطنة، التي انجزها على طول مشوار كفاحه الطويل. وتلك قيم صار المساس بها، بالنسبة للمواطنين اليمنيين، في مستوى المس بالكرامة الشخصية وسيادة الأوطان. وهي كذلك، بالنسبة لتلك الشعوب والأمم التي اجتازت مرحلة “التحول الحرج”، بعد نضال طويل وحروب ونزاعات وتحديات مماثلة: كالمكسيك، والألمان والهنود وسواها، من التجارب الإنسانية.

 

#ثورة_21_سبتمبر_حرية_واستقلال

أشترك على قناة أخبار تعز تلغرام وكن أول من يعلم الخبر فور حدوثه

telegram.me/taizznews