تعز العز

إسرائيل .. بين وجود “الأمونيا” والأمن الوجودي

منذ بضع عشرة سنة، قال بائع صحف يهودي على أحد أرصفة تل أبيب: “بعد هزيمة جيش الدفاع في لبنان عام 2000، بات الإسرائيليون يتهافتون على الصحف كما الخبز بعد كل إطلالة لزعيم حزب الله…، لم نعُد ننتظر معرفة الحقيقة من حكومتنا التي مللنا من كلامها الفارغ”، ومنذ تلك الأيام، باتت مقولة “نحن نصدِّق نصرالله أكثر من حكومتنا” على كل الألسن في الشارع الإسرائيلي.

وبعد يومٍ واحدٍ من إطلالة سماحة السيد حسن نصرالله بمناسبة ذكرى الشهداء القادة، بادر الخبير الإسرائيلي عاموس نوتاع، من معهد إسرائيل للتقنية “التخنيون”، وهو من معارضي بقاء حاويات الأمونيا في حيفا، الى القول: “نصر الله صادق في أقواله، وإنه يجب أخذها على محمل الجد، والمطلوب إخلاء الحاويات فوراً”.

المختص في الشأن الإسرائيلي عمر جعارة قال: “إن الإسرائيليين تقدموا بالشكر لأمين عام حزب الله اللبناني حسن نصر الله، عقب حديثه الثلاثاء عن إمكانية استهداف حاويات الأمونيا في حيفا، والتي تعادل بحسب نصر الله قنبلة نووية”، وأوضح أن القناتين “الثانية” و”العاشرة” العبريتين، نقلتا عن الإسرائيليين “شكرهم لحسن نصر الله، لأنه يدفع بحكومة إسرائيل إلى العمل على تنقية مدينة حيفا من التلوث، وذلك بتفكيك حاويات الأمونيا بسرعة”.
وانتفض كل من كان يعترض من المسؤولين على وجود هذه الحاويات، وفي طليعتهم رئيس بلدية حيفا، الذي كان يواجه رفضاً حكومياً لإزالتها، واعتبر أن المسألة تخطَّت أضرار تنشُّق الأمونيا والأمراض الصدرية التي تُصيب سكان حيفا، الى خطر وجودي حقيقي على ما يُقارب المليون نسمة.

وبعد يومين من إطلالة السيد نصرالله، سُئل خبير عسكري على إحدى الفضائيات، عن جدوى حديث السيِّد عن حاويات الأمونيا التي تُشكِّل قنبلة نووية تنتظر بضعة صواريخ، وكان حرياً عدم الإضاءة عليها كونها من الأهداف الإستراتيجية الثمينة في حال نشوب حرب فأجاب:
لدى حزب الله عشرات الأهداف غير حاويات الأمونيا في حيفا، والإضاءة على موضوع الأمونيا يأتي ضمن سياق سياسة توازن الرعب التي تنتهجها المقاومة مع العدو الإسرائيلي، سيما وأن هيلاري كلينتون، التي تسعى الآن للوصول الى البيت الأبيض، أبدَت عدم ممانعتها لضربة عسكرية إسرائيلية خاطفة، حتى لو حصدت الآلاف في غزة ولبنان، فكان من الأفضل توجيه “النُصح” لإسرائيل من مغبَّة أية حماقة قد تفكِّر بارتكابها، وجاءت مسألة التحذير من محاذير الأمونيا، “ضربة معلِّم” أفقدت الإسرائيليين نعمة النوم وأحلام الأمان.

ومشكلة الأمونيا في حيفا، فتحت باب النقاشات عن استراتيجيات بعيدة المدى في إسرائيل، كون مساحة فلسطين المحتلة ليست كافية لأن تكون المنشآت العسكرية والمدنية بمأمن عن صواريخ حزب الله، الذي اعتبره رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي غادي إيزنكوت في تعليقه على تهديدات السيد نصرالله، أنه أقدر وأخطر قوة إقليمية على إسرائيل، وجاءت ردود الفعل الشعبية الإسرائيلية على “نووية الأمونيا” غير مسبوقة لناحية الهلع العام، واتهام نتانياهو بأنه “يجلس على كرسيه ويفكِّر بقنبلة نووية إيرانية غير موجودة حالياً، ويتركنا ننام بين حاويات هي فعلاً قنبلة نووية تُعرِّضنا للإبادة”.

وسواء كانت مادة الأمونيا في حيفا، فوق الأرض أو تحتها، فإن أية حربٍ مستقبلية مع حزب الله ستنقل الإسرائيليين من فوق الأرض الى تحتها، لأنه شعبٌ اعتاد خلال عقودٍ من عدوان إسرائيل على العرب، أن يفترش الشواطىء آمناً وجيشه يُقاتل خارج الحدود دون أن يسقط صاروخٌ واحدة أو قذيفة على إسرائيل، لكن الدروس التي لقَّنتها المقاومة اللبنانية للإسرائيليين منذ العام 2000 وما بعده، جعلت الإسرائيلي يعيش واقعاً جديداً بمواجهة مدرسة جديدة في عقيدتها وفي تكتيكات المواجهة.

إن المُتابع لحركة الهجرة من إسرائيل بعد العام 2000، والفئات العُمرية للمغادرين ومعظمهم من الشباب، طرحت مسألة الأمن الوجودي لإسرائيل على طاولة البحث غير المُجدي، لأن كل حركة الإستيطان وتأمين رفاهية العيش الممكنة للإسرائيليين لم تخفِّف ولو 1% من حجم المُغادرين دون عودة، والكيان الإسرائيلي بات أمام خطرين، خارجي وداخلي، ينتميان لمدرسة واحدة أسَّس لها حزب الله وتعمل تحت مبدأ: إيذاء المجتمع الإسرائيلي أسوة بإيذائه لمجتمعاتنا.

وأمام التراجع الديموغرافي للإسرائيليين أمام فلسطينيي 48، والصحوة الواعية للجيل الفلسطيني الثالث من حملة الخناجر والسكاكين التي لا تردعها كل “القبب الحديدية”، فإن ثقافة استهداف الداخل الإسرائيلي سواء عبر سكين يقتنيها أفقر فلسطيني، الى عشرات آلاف الصواريخ الموجِّهة من المقاومة اللبنانية نحو البنى التحتية العسكرية والمدنية في إسرائيل عند أية إشارة أو شرارة عدوانية، تضع الأمن الوجودي الإسرائيلي على سكَّة أخطر مرحلة عبر تاريخه، والمُفارقة الصادمة أن حرب المواجهة التي لا عودة عنها مع هذا العدو، تستخدم كل أنواع الأسلحة، من صواريخ تُحيل الأمونيا لقنبلة نووية، الى سكِّين تُحيل الحياة اليومية لأي مستوطن إسرائيلي الى جحيم وأبواب الهجرة مفتوحة ولا بديل عنها..

 

أمين أبوراشد