تعز العز

بعض استنتاجات استراتيجيية حول روسيا

ان الفترة (1945 ــ 1949) (أي قبل ان يمتلك الاتحاد السوفياتي السلاح النووي) كانت تمثل “فرصة ذهبية” للغرب لمهاجمة روسيا واحتلالها عسكريا. ولكن بسبب التضحيات العظمى التي قدمها الجيش الأحمر (الروسي) صار يحظى بشعبية هائلة وصار الغرب يخشى من كابوس (فكرة) الحرب الشعبية الروسية التي قد تدفع   عشرات ملايين الروس، رجالا ونساء، ليمتشقوا السلاح  بهدف تحرير أوروبا كلها، بمساعدة الاحزاب الشيوعية الأوروبية التي كانت احزابا مقاتلة حينذاك. ومات تشرشل وفي قلبه حسرة كيف فوّت الغرب هذه “الفرصة”.

اميركا فضلت وضع يدها على أوروبا وعزل روسيا

ولكن الاميركيين، الذين كانت لهم الكلمة الأولى والاكثر براغماتية، كانت لهم وجهة نظر أخرى: فبين أوروبا الغربية المتطورة والغنية و”الصديقة” والخانعة، وبين روسيا الفقيرة والمدمرة والمعادية والشرسة، فضل الاميركيون السيطرة على أوروبا، واسدال “الستار الحديدي” على روسيا.

“اتفاقية يالطا” ضابط “الحرب الباردة”

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وخصوصا مع بداية “الحرب الباردة”، سرت “اتفاقية يالطا” السرية، وصارت هي ضابط العلاقات الرئيسي بين المعسكرين الشرقي والغربي،و ضابط سير عمل مجلس الامن والامم المتحدة. وصار توازن الرعب النووي هو ضابط السلام بين المعسكرين، حتى نهاية وجود الاتحاد السوفياتي.

“الفرصة الذهبية” الثانية… الضائعة!

ان العقد العاشر من القرن العشرين (أي مرحلة حكم غورباتشوف ثم يلتسين) مثل “الفرصة الذهبية” الثانية امام الغرب لمهاجمة واحتلال روسيا عسكريا. لأن البلاد كانت في أسوأ حالاتها، اذ تمادت الاوليغارشية اليهودية والروسية الفاسدة، الى اقصى الحدود، في نهب وتخريب الدولة الروسية وقواتها المسلحة. ولكن الحساسية السياسية لمسألة تجريد الجيش الروسي من سلاحه، والدقة العلمية لمسائل الأسلحة النووية وحاملاتها وقواذفها (السفن البحرية والغواصات والطائرات الستراتيجية والصواريخ الباليستية الخ،) جعل من الصعب  تفكيك هذه الأسلحة وبيعها حديد خردة، وهذا ما حماها من التخريب. فبقيت الوحدات النووية على جهوزيتها بشكل عام. أي ان الذي حمى روسيا من العدوان في تلك الفترة هو قوة استمرار توازن الرعب السابق.

نفض الغبار عن الأسلحة الاستراتيجية وإعادة توجيهها ضد الغرب

منذ 1-1-2001، أي بداية عهد بوتين، حتى 2012، نفضت إدارة بوتين القومية المعتدلة الجديدة الغبار عن كل الأسلحة السوفياتية السابقة، وكل الأبحاث العلمية العسكرية السابقة، وبدأت مرحلة جديدة من التحديث والتجديد، بعد ان أصبحت تملك إمكانيات تزيد اضعافا عن إمكانيات المرحلة السوفياتية، وذلك لعدة أسباب، تحتاج الى وقفة خاصة.

محاصرة اميركا نوويا من الثلاثة المحيطات حولها

وخلال المرحلة من 1-1-2001 حتى الان، وفي حين كانت اميركا مشغولة بارسال قواتها واساطيلها الى اقاصي الكرة الأرضية، كانت روسيا تعمل بشكل محموم ولكن بصمت لمحاصرة شبه الجزيرة الأميركية الشمالية من الثلاثة المحيطات التي تطوقها: الأطلسي، والهادي والمتجمد الشمالي، بالغواصات المحملة بالصواريخ النووية. وطبعا لا تذيع روسيا عدد هذه الغواصات، ولكنه اصبح “سرا” معروفا ان حمولة كل واحدة منها من القنابل النووية كافية للقضاء على الدولة الأميركية. كما اتخذت روسيا عقيدة عسكرية جديدة لها وهي: أولا ـ ان السلاح النووي هو محور السياسة الدفاعية الروسية. ثانيا ـ ان روسيا لن تكرر خطأ الحرب العالمية الثانية وتنتظر ان تتلقى هي الضربة  الأولى قبل ان ترد. وثالثا ـ ان روسيا لن تكون معتدية، او بادئة بالعدوان، ولكن في لحظة “التأكد التقني” من حتمية وقوع المواجهة الشاملة فإن روسيا هي من سيوجه الضربة الأولى، وستكون حتما الضربة الأولى والأخيرة لانها ستكون حتما ضربة نووية قاضية.

 

ولى عهد “توازن الرعب النووي”

وهذا يعني ان الكرة الأرضية او ما يسمى المجتمع الدولي قد تجاوز نظام “توازن الرعب النووي” بين القطبين الأميركي والروسي. وان اميركا تدرك تماما انها دولة مقضي عليها فيما لو حدث اصطدام شامل بينها وبين روسيا.

التوجه الأميركي نحو استراتيجية حروب الاستنزاف الكلاسيكية

ـ6ـ مع تأكدها من هذا الواقع، علميا وتكنولوجيا ـ عسكريا واستخباراتيا، فإن اميركا ـ وهي الدولة الاغنى والاقوى في العالم حتى الان ـ لم تستسلم طبعا، بل اتجهت نحو تطوير وتكثيف انتاج الأسلحة الكلاسيكية ولا سيما أسلحة التجسس او الاستطلاع التكنولوجي البري والبحري والجوي والفضائي، الراداري والكهر ـ مغناطيسي والمسح الضوئي والصوتي والحراري الخ، الالكتروني، واضافة هذه الإنجازات الى التطوير المفتوح للاسلحة القديمة واختراع أسلحة جديدة، كي تتفوق على روسيا ميدانيا في حال نشوب نزاعات إقليمية، لا سيما بواسطة اطراف ثالثة بما في ذلك المنظمات الإرهابية التي تشكل خطرا على الغرب وأميركا بالذات.

الاستراتيجية السلبية ـ الدفاعية الأميركية

طبعا ان اميركا لم تتخل عن العمل لتطوير أسلحتها النووية، وخاصة العمل لتطوير جهاز دفاعها الصاروخي والنووي. ولكن في الظروف الملموسة لواقع “اللاتوازن الاستراتيجي النووي” بينها وبين روسيا، اتجهت اميركا بصمت نحو فرض سباق تسلح جديد على روسيا، هو سباق التسلح الكلاسيكي والتكنولوجي التجسسي (الاستطلاعي). ومن ضمن هذا السياق انتجت اميركا سياسة تشجيع وتنظيم وتمويل وتدريب وتسليح الانقلابات والتنظيمات والأنظمة الفاشية والتكفيرية الإرهابية، لاستنزاف واضعاف روسيا في عدد من الحروب الإقليمية في محيطها وبجوارها. وكان ابرز ما قامت به على هذا الصعيد هو تشجيع “العثمانية الجديدة” في تركيا وانطلاقا منها، وما سمي “الربيع العربي” في بعض البلدان العربية، وخاصة في سوريا.

الشعب الذي لا يقهر

وفي هذا السياق فإن كل من اميركا وروسيا تعمل على تطوير أسلحتها من الجيل الرابع وعلى اختراع أسلحة جديدة. ومع ان اميركا هي، حتى الان، اغنى من روسيا بكثير خصوصا وانها تمتلك حق اصدار العملة الورقية (الدولار) بدون تغطية ذهبية، فإن روسيا اخذت تتقدم على اميركا بأشواط في مجال نوعية وتنوّع الأسلحة، الامر الذي لا نجد له تفسيرا سوى في الروح الهجومية التي يتمتع بها الشعب الروسي والتقاليد العريقة للعسكرية الروسية، التي حافظت على طابعها “الوطني” حتى في احلك ظروف سيادة أسوأ الأنظمة الاستبدادية القيصرية والدكتاتورية والخيانية الستالينية والنيوستالينية في روسيا.

الدعم الروسي لسوريا يلتزم بالقوانين الدولية

اذا تجردنا عن البروباغندا الغربية المغرضة، فإن الدعم الذي قدمته وتقدمه روسيا لحلفائها في الشرق الأوسط لا يخرج بتاتا عن القوانين الدولية وقواعد الشرعية الدولية، وليس فيه أي تدخل في الشؤون الداخلية لاي بلد. وفي هذا السياق يجب التأكيد ان روسيا ليست ملزمة بالاخذ بالتوصيفات الأميركية او السعودية او التركية، لحزب الله او الحوثيين او الحشد الشعبي في العراق او الـ ب ك ك في تركيا، . فهذه التوصيفات تقع على عاتق مطلقيها وحدهم، الذين عليهم ان يتحملوا المسؤولية عنها.

روسيا ستصحح غلطة الاعتراف بالدولة التركية بعد الحرب العالمية  الاولى

كانت روسيا تعمل لتحسين علاقاتها مع تركيا ولا سيما اقتصاديا، كما كانت تستخدم علاقات الصداقة التاريخية مع الأرمن والاكراد واليونانيين والعرب والسريان والاشوريين، في مصلحة العمل لايجاد حلول سلمية بين هذه القوميات والاتنيات وبين تركيا. ولكن تركيا العثمانية الجديدة الاردوغانية ردت على هذا التوجه التاريخي الروسي بالاسقاط الغادر لاحدى الطائرات الحربية الروسية على الحدود التركية ـ السورية وقتل احد الطيارين. وقد وصف الرئيس بوتين هذه العملية بالقول “انها طعنة في الظهر”. وهذا يعني:

أولا ـ ان روسيا لن ترد بانفعال على الاستفزاز التركي.

ثانيا ـ ان روسيا ستعيد النظر بعمق في جميع علاقاتها مع تركيا.

ثالثا ـ ان روسيا، التي خدعت مرة ورضيت بوجود “الدولة التركية الحديثة” على حدودها، بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، لن تخدع مرة ثانية وترضى بوجود دولة تركية تطعنها في ظهرها على حدودها.

وستبدأ روسيا تطبيق استراتيجية بعيدة المدى لخنق الدولة التركية .

من يمد اصبعه ضد روسيا ستقطع يده من الكتف

ان روسيا تتوقع طبعا ان تعمد العثمانية الجديدة الاردوغانية الى استخدام الحركات الاسلاموية التكفيرية الإرهابية والعامل الطوراني ضد روسيا  في جمهوريات اسيا الوسطى السوفياتية السابقة. ولكن الشعب الروسي الذي، وبالتآخي مع شعوب آسيا الوسطى، سحق في السابق الفاشية والنازية الألمانية واليابانية، فإنه ـ مرة أخرى ـ وبالتآخي مع الشعوب الإسلامية وذات الاصول الاتنية الطورانية، سيسحق تماما وجذريا الحركات التكفيرية الاسلاموية الإرهابية والعنصرية الطورانية بوصفها فاشية جديدة معادية للإنسانية جمعاء.

صوفيا ـ جورج حداد