تعز العز

العلاقة بين القومية والدين: قراءة عروبية متجددة (٣)

اياد حرفوش*

 

تناولنا في مقالين سابقين بعنوان “العروبة خيار استراتيجي أم واقع عرقي” عوامل اللغة والعرق، والتي درجت أدبياتنا الوحدوية على الدفع بأنها ركائز للوحدة العربية، وقدمنا طرحنا بأنها مسوغات تدعم الوحدة لو قامت، ولكنها ليست بواعثا تدفع شعوبنا العربية نحوها، وليست مقومات تضمن بقاءها! واليوم نفرغ لثالث العوامل التي تتناولها أدبياتنا الوحدوية وهو العامل الديني! لنثبت أنه بدوره مسوغ وحدوي وليس باعثا ولا مقوما لوحدة عربية، نرى باعثها الوحيد الذي يواكب زماننا هو المصلحة المشتركة والمصير المشترك.

لعل أستاذنا الجليل “عصمت سيف الدولة” أكثر من أولى هذا الباب من الفكر القومي العربي اهتماما، فصنف فيه كتابا بعنوان “العروبة والإسلام” في الجزء الثاني من سلسلة الثقافة القومية الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية. أضاء الأستاذ “سيف الدولة” في كتابه هذا على خصوصية العلاقة بين الدولة القومية والدين عموما، وبين العروبة والإسلام خصوصا، وبين عدم التعارض بين فكرة العروبة وبين الإسلام، ونحن مثله لا نرى تعارضا – بل تكاملا – بين فكرة العروبة والدين، غير أننا نخالفه (مخالفة التلميذ المقر بالفضل لأستاذه) في اعتبار الدين مقوم وحدوي، فنحن نجد ما أورده حول خصوصية العلاقة بين العروبة والإسلام وجيها بفقه التاريخ، ولكن لا نجد له دورا كباعث ومقوم وحدوي بفقه الواقع!

فقه التاريخ.. خصوصية العلاقة بين القومية والدين

عبر رحلة تطور المجتمعات البشرية، كان الانتماء للعشيرة الأمومية برأي قطاع واسع من علماء الآنثروبيولوجي هو بداية شعور الإنسان بالانتماء! وبدأت بمرور الوقت أديان تقدس الجدة الكبرى للعشيرة، وحتى برأي من يرون أن العشائر الأبوية كانت موازية في القدم للعشائر الأمومية، فإن عبادة الأجداد الذكور ظهرت معها! في مراحل تاريخية أحدث نسبيا، ستجد أن الدين كان في معظم الأحوال “دينا محليا” يخص شعبا بعينه، فكذا كانت العقيدة الأوزيرية تخص مصر القديمة، وترى المصريين كأحفاد الآلهة، وكذلك الديانة الهندوسية، والديانة الميثرية في فارس القديمة! حتى يصعب أن تضع خطا فاصلا بين نشأة الشعور القومي ونشأة الشعور الديني لتعرف أيهما كان السابق! وفي التاريخ المعاصر، ولعل الديانة اليهودية تعد نموذجا واضحا لفكرة الديانة القومية، لأن “يهوه” أو “جاهوفا” هو – بزعمهم –  رب اليهود وليس رب العالمين! وهو ينظر لشعبه بحنان أبوي مقابل قسوة مفرطة على بقية شعوب الأرض! ولم يتحرر مفهوم القومية في الفكر البشري من النطاق الديني حتى قرابة القرنين من الزمان!

 

العروبة والإسلام بين التضخيم والتهوين

نقر بأن العلاقة بين العروبة والإسلام أشد خصوصية من علاقة القومية بالدين عموما! إذ اتضحت معالم الأمة العربية في ظل الإسلام بصورة فاقت ما سبقها بمراحل بعيدة(خلافا لعلاقة المسيحية بالإمبراطورية الرومانية مثالا)! وإن كنا لا نوافق من يقول بأن الإسلام صنع العروبة، فقد صنع الإسلام للعرب مجدهم وأمتهم الموحدة، وإنكار هذا تهوين غير مبرر! لكنهم كانوا جماعة بشرية تسكن الجزيرة العربية قبله، ولم يكونوا شديدي البعد عن “الأمة” بمفاهيم وقتهم (لا بمفهومنا اليوم)، وكان لديهم شعور قومي! وإنكار هذا أيضا تهويل غير مبرر! والأدلة على أن العروبة سابقة زمنيا على الدين عديدة، وفي مقدمتها؛

(١) الشعور القومي لدى العرب، فتعبير “أيام العرب” هو تعبير سابق على الإسلام. وكان “قس بن ساعدة الإيادي” يلقب بخطيب العرب! بل إن اعتزاز العربي قبل الإسلام بلغته وصل لوصف من يتحدث بغيرها أنه أعجمي، كذلك فإن نداء “يا أخا العرب” موجود في قصص التراث السابقة على الإسلام! كذلك رسوخ التراث الثقافي العربي شعرا ونثرا قبل الإسلام! فالفكرة التي صنعتها السينما والدراما التقليدية حول القبائل البدوية الهمجية لا يمكننا وصفها بالدقة في ظل ما بين يدينا من تراث عربي عريق! لقد كان هناك شعور غائم بانتماء قومي، كان أقل قوة بطبيعة الحال من الانتماء القبلي، لكنه كان قائما وعميقا!

(٢) الممالك والوحدات القبلية السابقة على الإسلام! إذ لم تكن الدولة الإسلامية أول محاولة وحدوية، فقد سبقتها محاولات لجمع القبائل في ممالك في شمال الجزيرة وجنوبها، ثم وصلت فكرة جمع القبائل إلى الحجاز، سواء في سياق حكومات فضفاضة مثل حكومة الملأ في قريش، أو ممالك مثل محاولة تتويج “عبد الله بن سلول” في يثرب قبيل الهجرة النبوية المشرفة! وعليه فلا يمكننا الجزم باستحالة توحد الجزيرة العربية تحت لواء واحد لو لم يظهر الإسلام فيها.

(٣) عالمية الإسلام كرسالة وعقيدة! فالإسلام ديانة إنسانية بنصها السماوي الذي ساوى بين البشر! وبمنهاج نبيها الذي قال “سلمان منا آل البيت”، ولم يقر القرآن ولا أقرت السنة النبوية المشرفة أبدا بميزة للعرب على سواهم! لكن ما حدث تاريخيا أن الدولة الأموية بقيامها شكلت “ثورة مضادة” لإنسانية الإسلام الجامعة، وهي المسؤولة عن تحول الدولة الإسلامية الناشئة من دولة عالمية وإنسانية بحكم ثوابت دينها ونصها المقدس إلى دولة للعرب! أما الرسالة الإنسانية العامة فلا ينبغي لها لو سارت في مسارها الطبيعي النقي أن تصنع دولة قومية!

فإذا كنا نتفق بعد هذا السرد أن الدين لم يصنع العروبة، يبقى أمامنا أن نبحث فكرة الإسلام كمقوم وحدوي!

فقه الواقع؛ الإسلام كمقوم وحدوي

عندما عزم البريطاني على مغادرة شبه القارة الهندية، كان واضحا له أن استمرار قدرته على استغلال تلك البلاد الشاسعة مقترن بتفكيكها! فكان التفكيك على أساس ديني باستقلال باكستان عن الهند! وعندما عزم الاستعمار كذلك على مغادرة الشرق العربي انتهج نهجا مماثلا! فكانت محاولات الفتن الطائفية في مصر ولبنان وغيرهما، وكان غرس الكيان الصهيوني في الجسد العربي على أساس ديني، وكانت صناعة الدولة السعودية ككيان أصولي وهابي في الجزيرة العربية! فلو كان الدين مقوما وحدويا، فكيف يعتمد عليه العدو كمعول للهدم والتفكيك؟

نعم، الإسلام بقراءته الوسطية القابلة للآخر هو مسوغ وحدوي مثل اللغة والتاريخ المشترك لأنه يمثل القاعدة الأوسع من سكان الشرق العربي، لكن المشكلة عند اعترافنا بالدين كأساس لترسيم الأوطان وترسيخ القوميات أن ما يحدث عادة سيكون مزايدة المتطرف على المعتدل، والرافض للآخر على القابل له، وسيرتكز المتطرف على ما تم الإقرار به من مرجعية الدين كمقوم وحدوي ليحقق مزايدات تدريجية أولها تهميش الآخر الديني والطائفي وآخرها تكفيره وقتله!

واقع الحال أن البشرية تجاوزت مفهوم الوحدات القائمة على أساس ديني وطائفي تماما كما تجاوزت التجارب الوحدوية القائمة على أساس العرق، وتجربة شبه القارة الهندية تعد مثالا صادقا؛ فلو كان الدين مقوما وحدويا لما انفصلت بنغلادش عن باكستان عام ١٩٧١م بسبب الانفصال الجغرافي والتهميش الاقتصادي! لقد تباينت مصالح باكستان الشرقية فانفصلت وصارت بنجلاديش رغم وحدة الدين!

دولة الخلافة بين الماضي والحاضر

سيقول قائل أن الدين كان مقوما وحدويا لدولة الخلافة الإسلامية في الماضي البعيد، وللدولة العثمانية في الماضي القريب! وسأجيبه بأن أوروبا كانت ذات قرن تسمى “العالم المسيحي” أو “كريستياندوم”، فلم تكن دولة الخلافة في زمانها بدعا من الأمر! كانت سنة الزمان التي جرت علينا وعلى غيرنا! أما الدولة العثمانية فلم تكن لها بالدين علاقة إلا علاقة المتذرع بالذريعة، وعلاقة المستخدم بالأداة! فقد احتل التركي مصر بدعوى الإسلام ومصر قد سبقته إلى الإسلام بقرون! وكذا احتل الشام وكافة أقطار العالم العربي، وكانت دولة بني عثمان دولة تسود العرق التركي على بقية الأعراق! فمن الظلم للإسلام بفكره الإنساني والعالمي أن ننسبها إليه أو ننسبه لها!

بهذا المقال الثالث نكون قد انتهينا من بيان أن ما درجنا على وصفه بالمقومات الوحدوية هو في أحسن تقدير مسوغات لا مقومات، وفي مقالنا القادم نشرع في بيان الأساس الذي نراه قويما للفكر الوحدوي المعاصر!

* كاتب عربي من مصر

===

أشترك على قناة أخبار تعز للتلغرام وكن أول من يعلم الخبر فور حدوثه انقر هنا